تمايزات إقليمية ما بين نيسان وآب.. معايير الأمن أولاً
| عبد المنعم علي عيسى
منذ يومي 30 و31 تموز المنصرم، اللذين شهدا قيام إسرائيل باغتيال القيادي البارز بحزب اللـه فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية ورئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران على التوالي، سارعت الولايات المتحدة نحو الإمساك بعصا «المايسترو» من جديد، تماماً كما فعلت في أعقاب استهداف إسرائيل لمبنى القنصلية الإيرانية بدمشق، حيث الفعل يهدف، بالدرجة الأولى، إلى ضبط التصعيد الذي يمكن له أن ينجم عن ذينك الفعلين، وواشنطن كانت تعتد بتجربة غير بعيدة تمثلت في التصدي للصواريخ الإيرانية ليلة 13 – 14 نيسان المنصرم الذي جرى عبر حالات دعم وإسناد إقليميين من دون أدنى شك، والشاهد هو أن «التحالف الإقليمي» الذي أنشأته واشنطن على عجل تحسباً لتلك «الليلة»، كان قد نجح، بدرجة جيدة، في التخفيف من الآثار الناجمة عن الصواريخ الإيرانية، ولعل المسارعة الأميركية الراهنة تهدف، بالدرجة الأولى، إلى تكرار التجربة مع الأخذ بعين الاعتبار لمعطيات عدة كانت قد استجدت ما بين شهري نيسان وتموز المنصرمين، لعل أبرزها أن حرب غزة، التي دخلت شهرها الحادي عشر من دون حسم ولا اتفاق، قد باتت تهدد بـ«تعود» رائحة الدم بكل ما يثيره الفعل من شهية لتوسعة بركه.
لا يبدو أن الجهود الأميركية قد نجحت في رسم ملامح شبيهة لـ«التحالف الإقليمي» سابق الذكر الذي تكشفت ملامحه شهر نيسان المنصرم، وما رشح عن زيارة وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، إلى طهران مؤخراً يشي بأن عمان تفضل هذه المرة البقاء على الحياد، ومثلها فعلت مصر التي أشار مسؤولوها إلى أن بلادهم «ليست معنية بالدفاع عن إسرائيل»، واللافت في هذا السياق هو موقف المملكة العربية السعودية التي اعتبرت اغتيال هنية «خرقاً فاضحاً للسيادة الإيرانية»، بل حتى قبرص، التي تمثل هنا مدماكاً أساسياً في «المظلة» الغربية لحماية سموات فلسطين المحتلة، راحت تعلن عن تبرمها وتبرر ما يجري على أراضيها بأنه «خارج إرادتها» وأن «لا سبيل ممكن لمعارضته» مع تأكيد مسؤوليها بأن لا «نية لبلادهم للدخول في صراع مع إيران أو حزب الله»، بل اللافت أكثر هو أن ثمة انزياح حاصل في المزاج الشعبي العربي، الذي بدت شرائح وازنة منه رافضة لمحاولات إثارة الفتن المذهبية، ورافضة أيضاً لـ«شيطنة» إيران، ليخلص «الموقف» عند هؤلاء، الذين كانوا حتى الأمس القريب في خندق مضاد، إلى أن «المعتدي» لا مذهب له سوى العدوان.
قد يتعدى هذا الفشل الأميركي في محاولة إنشاء ذراع «ناتووية» شرق أوسطية لصد هجمات محتملة على أهداف إسرائيلية، حدود تلك المحاولة، ليطول المحاولة، الأميركية أيضاً، التي كانت تقوم على إنشاء منظومة أمنية ما بين العديد من دول المنطقة، ومن ضمنها إسرائيل، بغرض ترتيب أوضاع هذه الأخيرة بشكل يضمن «الاستقرار» القائم أصلاً على سيادة إسرائيل لتلك المنظومة وعلو «كعبها» في المجالات كافة، والشاهد هو أن دول المنطقة المرشحة لعضوية تلك المنظومة، كانت وجدت نفسها، بعد هذا الصلف والتجبر الإسرائيليين وما أحدثه من انزياحات في الشارع العربي، أمام أحد خيارين، الأول هو أن تظل سياساتها، هكذا، في حال من التناقض مع المزاج العام لشارعها، والثاني أن تتغير تلك السياسات لتتماشى مع هذا المزاج الذي غالباً ما بدت عليه حال التململ من كل «الاعتدال» في مواجهة كل التطرف الإسرائيلي، بل إن المزيد من هذا التطرف كان كثيراً ما يستحضر المزيد من التململ.
ترسم المعطيات آنفة الذكر مشهداً إقليمياً جديداً، وإن لم تتبلور ملامحه بعد، فالولايات المتحدة ترى، عبر سياساتها الداعمة لكل هذا التطرف الإسرائيلي، أن محاولات التفلّت من قبضتها، قد تؤدي إلى انكسار هيمنتها في الشرق الأوسط، الذي أثبتت حرب غزة أنه لا يزال قلب العالم، الأمر الذي يفسر حشوداتها العسكرية المتزايدة منذ مطلع آب الجاري، في حين ترى العديد من دول المنطقة، وهي في جلها عربية، أن الإملاءات الأميركية الرامية إلى تعزيز قوة «الردع» الإسرائيلية واستعادتها لصورتها التي كانت عليها قبل الـ7 من تشرين الأول المنصرم، من شأنها العبث بمتطلبات الأمن والاستقرار في دواخلها، وكذا في المنطقة عموماً، وما بين الرؤيتين بدت مباراة «شد الحبل» على أشدها، والطرفان فيها لم يستطيعا، أقله حتى الآن، تسجيل نقاط يمكن لها أن تنبئ بالنتيجة المحتملة.
المأزق الحقيقي هنا هو أن عداد الوقت يمضي سريعاً، وهو لا ينتظر، واللعبة يجب أن تظهر نتيجتها قبيل أن تقترب «الشرارة» من «برميل البارود»، ولعل التجارب التي مرت بها المنطقة في نوع كهذا من «المشادات» كانت تشير على الدوام إلى كسب «الفريق الأميركي» لأغلبيتها الساحقة، مع تسجيل استثناءات قليلة، وهي في مطلق الأحوال لم تكن ظروفها، والمآلات المحتملة لها، تشبه تلك الحاصلة الآن.
كاتب سوري