السلام المفقود.. والهدف النهائي للبشرية
| د. حسام شعيب
تقول السردية التاريخية والدينية إن الإنسان عاش بسلام منذ بداية الخلق إلى لحظة ارتكاب الجريمة الأولى على هذه الأرض، عندما أقدم قابيل (قاين) على قتل أخيه هابيل، وأياً كانت التفسيرات الدينية المختلفة لهذه الجريمة إلا أن الكل قد أجمع على استخدام قصة الأخوين قابيل (قاين) وهابيل في استكشاف أصول العنف الديني، وهذا وثيق الصلة بشكل خاص في نموذج التنافس بين الأشقاء، ويُعرف هذا النموذج باسم «التنافس المقدس».
هنا يحضرنا تساؤل: إذا كان ابن واحد فقط (قابيل أو هابيل أو اسحاق أو إسماعيل أو عيسى أو يعقوب أو رمزياً يسوع «ابن الله») يمكن أن يُبارك ويمنح الشرعية، فكيف يمكن لنسلهما أن يعيشوا معاً بقبولٍ كامل؟!
هل كان يلزم العيش على الأرض استخدام العنف والقوة، ولو كان الأمر متعلقاً بقبول قربان لله، أو بقتل أخ قد ولد من الأم والأب ذاتهما؟
كيف يمكننا فهم أن الأبوين اللذين قضيا وقتاً في عالم آخر من السلام والنعيم بين خلائق قد تختلف في تركيبتها عن تركيبة البشر؟! رغم ذلك كانت ميزة ذلك العالم بأنه يتسم «بدار السلام» بل إن اللـه نفسه قد وصف نفسه بهذا الاسم «السلام» وعممه على خلقه وأنبيائه عندما طلب منهم أن يكرروا عبارة «السلام عليكم»، ولكن حتى هذه العبارة ثمة بلدانٌ عديدة، منها بلداننا نحن، تتخبط بالعنف والحرب ولا تعرف كيف تخرج من دوار القتل والإجرام بمختلف أشكاله.
موضوع السلام نراه في بداية العهد الجديد في الإنجيل، حيث تنشد الملائكة لدى ولادة الطفل يسوع «المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام للناس فإنهم أهل رضاه» وفي ختام الإنجيل مع نص اليوم «السلام عليكم».
كذلك نرى موضوع السلام في الإسلام مبدأً من المبادئ التي اعتنى بها الإسلام عناية واضحة وشاملة، فكلمة الإسلام بحد ذاتها تدل على السلام، فهو جزء لا يتجزأ منه، بل إن الإسلام قد أكد رسالته في السلام لبعثة محمد صلى لله عليه وسلم عندما قال: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، كذلك ختم رسالته بالتأكيد على السلام عندما قال: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً».
فكيف يمكننا أن نفهم هذا الكلام؟ ولماذا لم تحقق الشرائع السماوية أو الأديان في العالم السلام؟
على ما يبدو أن عدد اتفاقيات السلام في العالم منذ 400 سنة ما يزيد على مئتي اتفاقية لم تتحقق، فأين هذا السلام؟
عندما نتكلم عن السلام مع اللـه أو عن جماعة مسالمة، أو عن إنسان يعيش بسلام مع ذاته، فنحن نتكلم عن أمر آخر، مختلف تماماً.
نتكلم عن أمر أكثر إيجابية من مجرد غياب الصراع.
فالإنسان على الصعيد الفردي الشخصي يعيش صراعاً بين رغبته في السلام وميله للتملك والتسلط وليكون الكل.
وبالتالي مجمل الصراعات التي تعيشها الإنسانية، أياً كان شكل هذه الصراعات، فهي عبارة عن انعكاس للصراع الشخصي الدائم في الإنسان. فلكي يتم السلام لابد من زرعه وتحقيقه أولاً في قلوبنا، في داخلنا والباقي يأتي «تحصيل حاصل» كما نقول بالعامية.
وفي ضوء هذا الكلام لا يحق لنا أن نقول: ماذا يمكنني أن أصنع من أجل تحقيق السلام في العالم. فالمهم هو أن نزرع السلام في قلبنا من خلال العلاقة مع اللـه التي من المفترض أن تنعكس إيجاباً في علاقتنا مع بعضنا بعضاً، فالله هو الوحيد الذي يغير قلوب البشر ويحقق السلام في قلوبهم.
إلا أن الإشكالية في اعتقاد الإنسان أنه «مدير هذه الأرض» إن صح التعبير، والمشكلة أنه يريد أن يكون المالك الوحيد عن أقرانه. من هنا ينشأ الصراع الدائم في البشرية وتُخلق الانشقاقات والانقسامات بين البشر، ما يمنعهم من العيش في الطمأنينة والسلام.
لذلك أكدت الشرائع السماوية أو الأديان مفهوم العدالة الذي يهدف لبناء السلام حيثُ توقف. هذا المفهوم لا يكتفي باحترام القوانين والقواعد مهما كانت مهمة وأساسية.
مفهوم العدل الذي يشدد على تحول الأشخاص، والعلاقات، دليل عمل اللـه فيهم، لكي يتمكنوا من بناء السلام. فإن يكون اللـه مصدر وأساس السلام، فهذا لا يلغي مسؤوليتنا في تحقيقه من خلال علاقتنا مع اللـه ومع الآخرين.
إلا أن من أطلقنا عليهم «مديرو الأرض» حولوا مسألة التنوع المعرفي والثقافي والحضاري إلى صراع، وقد توهم العالم أن هذا «الصراع» إن صح التعبير هو صراع البقاء، ولاسيما تلك الثقافات التي تعيش ذاتها في خطر مقابل الثقافات الأخرى.
فتحولت فكرة السلام بشكل أساسي إلى دافعٍ لأسباب كامنة وراء اقتتال الناس فيما بينهم.. وضاعت معاني ومفاهيم السلام الحقيقية.
فالمنتصر هو من بات يصنع السلام أو يتحكم به، ولا أدل على ذلك من الخارجين للتو من الحرب العالمية الثانية منتصرين فأنشؤوا الأمم المتحدة بأهداف ومبادئ تسعى إلى إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحرب_ هي الحرب ذاتها التي فتك بها هؤلاءُ بغيرهم_ وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً من دون تمييز سواءً أكان عرقياً أم جنسانياً أو دينياً أو لغوياً!!
ولإقناع دول العالم الثالث ولتلك الدول والأفراد المهزومة، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلاناً عاماً بشأن «ثقافة السلام».
ومنذ تأسيس الأمم المتحدة وحتى يومنا هذا، كم من الصراعات والانقسامات والفوضى التي حلت بالعالم، والتي كان «لأدعياء السلام» فيها مصالح ومكتسبات لتلك الدول.
إن بناء السلام يحتاج إلى تفعيل القوانين المنصوص عليها في المعاهدات الدولية والوثائق الرسمية العالمية التي أصدرتها مجموعة المؤسسات المحلية والوطنية والإقليمية والدولية، ويستدعي تدخل الأطراف المعنية من مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الشأن الخاص بفض النزاعات، سواء كانت داخلية أم خارجية، وذلك بتطبيق العقوبات المفروضة على الجهات المتنازعة ومعاقبة الجهة التي أحدثت الحرب أو العنف، بدل بقاء تلك العقوبات المنصوص عليها مجرد حبر على ورق، وإلا فستتحول المجتمعات الإنسانية إلى ساحات حروب دامية لا تنتهي إلا بفناء النوع البشري.
إلا أن كل ذلك لن يتحقق ما لم يمتلك الإنسان السلام الروحي وهو الحالة التي يشعر بها الإنسان بالراحة والاطمئنان الداخلي، والتي تنعكس على حياته الخارجية بشكل إيجابي. فعندما يشعر الإنسان بالسلام الروحي، فإنه يكون قادراً على التعامل مع التحديات والصعاب بصورة أفضل، ويشعر بالراحة والسكينة والاستقرار الداخلي.
ومن خلال تجربة السلام الروحي، يمكن للإنسان تحقيق السلام الخارجي، إذ يتعامل مع الآخرين بروح الإيجابية والتفهم والتسامح، ويعمل على بناء العلاقات الإيجابية والمستدامة مع المجتمع المحيط به.
وبالإضافة إلى ذلك، يعتبر السلام الروحي دافعاً لتحقيق السلام في العالم، فيمكن للإنسان الذي يشعر بالسلام الروحي أن يصبح نموذجاً للسلام والتسامح والتعايش السلمي بين الثقافات والأديان والشعوب.
في النهاية، يمكن القول: إن السلام الروحي يشكل الدافع لتحقيق السلام الخارجي، إذ يعتمد الأمر على تحقيق السلام والاستقرار الداخلي في الإنسان أولاً، ومن ثم يمكن له أن يعمل على تحقيق السلام والاستقرار في العالم المحيط به.
وعندما يتم تحقيق السلام الداخلي والروحي، فإن ذلك يؤدي إلى بناء مجتمعات أكثر استقراراً وسلاماً وتعايشاً، وهو ما يمثل الهدف النهائي للبشرية جمعاء.