لماذا قرر الأوروبيون الاستدارة نحو دمشق؟
| عبد المنعم علي عيسى
في شهر نيسان من العام 2017 أصدر مجلس «الاتحاد الأوروبي» بياناً مطولاً تناول فيه الاستراتيجية التي ستعتمدها دوله حيال الأزمة السورية ونظام الحكم القائم فيها، والبيان المطول كان قد احتوى على «لاءات ثلاث» شهيرة، الأولى منها تقول: لا للتطبيع مع دمشق، والثانية: لا لرفع العقوبات عنها، أما الثالثة فتؤكد على أن لا لإعادة الإعمار في سورية، ما لم يتم تحقيق تقدم ملموس في العملية السياسية وفقاً للقرار 2254 الذي كان قد مضى على صدوره نحو 16 شهراً أو هي تزيد قليلاً، والجدير ذكره هنا في هذا السياق هو أن القرار المذكور، الذي مثل وجهة نظر غربية محضة حيال الحل الافتراضي في سورية، كان قد صدر بغياب سوري تماماً، أما موافقة موسكو وبكين عليه آنذاك فالراجح أنها كانت نتيجة لشدة الهجوم الغربي، وأدواته الإقليمية والمحلية، حيث التفكير كما يبدو كان متركزاً أولاً، عند الروس والصينيين، على وجوب حماية «الكينونة»، ومعها التركيبة السورية، التي إن انفرط عقدها فلسوف تلحقها باقي الكيانات المحيطة بها طال الوقت أم قصر.
شهدت الأشهر القليلة المنصرمة رواجاً لتقارير تقول إن عدداً من دول «الاتحاد الأوروبي» كانت قد أبدت تمايزاً في مواقفها عن باقي نظرائها حيال الأزمة السورية، والفعل إياه، وفق بعض التقارير، التي ذكرت أن عديد تلك الدول يصل إلى الثماني، يمثل بداية تفككاً لـ«بيان نيسان» آنف الذكر، حيث الرؤيا عند هؤلاء كانت تقول بوجوب التعاطي مع الأزمة السورية عبر سياسات تحاكي الواقع الراهن لا القفز فوقه، والشاهد هو أن الكثير مما روجت له تلك التقارير كانت له موجباته التي من بينها الزيارات التي قام بها العديد من رؤساء أجهزة الاستخبارات الأوروبية إلى دمشق والتي كان بعضها معلناً، فيما فضل البعض إبقاءها طي الكتمان، لكن إعلان إيطاليا، يوم الـ26 من تموز الماضي، عن تعيين سفير لها بدمشق، يمثل انعطافة كبرى في هذا السياق، انطلاقاً من معطيات عدة أبرزها أن القائم بالفعل ينتمي إلى «قماشة» الدول الصناعية السبع، ومن الصعب تخيل أنه أراد، هكذا فجأة «شق عصا» الطاعة على تلك القماشة التي لعبت دوراً محورياً في الحرب على سورية طوال ما يقرب من عقد من الزمن.
يمكن الجزم أن عوامل عدة كانت قد لعبت دوراً في إعادة مراجعة الأوروبيين، أو بعضاً منهم حتى الآن، لسياساتهم حيال دمشق، فالرهان على «الحل الأميركي» بات ميئوساً منه ناهيك عن العديد من الإشارات التي راحت تصدر عن واشنطن وهي في جلها تقول: إن ثمة متغيرات لم تتضح ملامحها بعد، والبقاء الأوروبي في غرفة انتظار ذلك الحل بات يمثل نوعاً من «العقم» السياسي، وفي هذه الحال يصبح طرق أبواب دمشق نوعاً من المنافسة مع لاعبين كثر مثل الروس والإيرانيين، ناهيك عن أنه يتيح «ضبط» الانفتاح التركي على دمشق بعيد إصرار أنقرة على التغريد خارج السرب الغربي في هذا السياق، لكن أهم ما في الأمر هو أن الحوار مع دمشق، وفق الرؤيا التي يتبناها الكثير من الأوروبيين، ستكون السبيل الوحيد لإيقاف موجات الهجرة المتتالية، مع إمكان أن تتخذ تلك الهجرة طريقاً معاكساً، أي عودة السوريين المقيمين إلى أراضيهم، والفعل يبدو شديد الأهمية بالنسبة للأوروبيين في ظل الصعود الصاروخي لموجة اليمين السياسي، الشهير بعدائه للمهاجرين، في عموم القارة العجوز.
ثمة لهجة جديدة يستخدمها الأوروبيون في سياق سلوكهم للطرقات المؤدية إلى دمشق، وتلك ترصدها بعض التسريبات التي تخرج أحياناً عن بعض اللقاءات التي يجريها مسؤولوهم مع نظراء لهم معنيون بالشأن السوري، وفيها أن أولئك يرون أن المسؤول الأول عن تدهور الأوضاع الإنسانية والاقتصادية في سورية هو الحصار الأميركي الجائر والذي يفوق قدرات هذا البلد على احتماله، وتتمة ذلك تقول: إن هذا التدهور المتواصل هو الذي حول البيئة السورية برمتها إلى «خزان» من المهاجرين غالباً ما يكون في حال نشاط، الأمر الذي بات يمثل «تهديداً» للاستقرار الأوروبي، ومثل تشخيص كهذا يمثل، من دون شك، انعطافة أوروبية مهمة من النوع الذي يمكن البناء عليه، لكن الفعل لكي يتخذ طابعاً أكثر عملياتياً وفاعلاً بدرجة وازنة، يجب أن يفضي بالضرورة إلى ملاقاة الحضور الروسي في سورية لاعتبارين مهمين أولاهما أن الغياب الغربي، الذي يحاول جزء من الأوروبيين ترميمه، يصب تلقائياً في جعاب الدور الروسي، وثانيهما أن الأوروبيين الذين يرون في الدور الأميركي هو المشكلة تقع على عاتقهم مهمة الاستعانة بدور بديل موازن لهذا الأخير، ومن دون شك ما من دور يقوم له بالقيام بمهمة من ذلك النوع سوى الدور الروسي الذي إن تم التنسيق معه بغية إيجاد حل يدخل البلاد في نوع من «التعافي» فإن ذلك سوف يشكل مدخلاً لتفكيك «الخزان» آنف الذكر.
من المؤكد أن الخطوة الإيطالية لن تكون هي الوحيدة، ولعلها تلعب دوراً محفزاً لقيام آخرين بخطوات مشابهة خصوصاً إذا ما حققت، تلك الخطوة، بعضاً من النجاح المطلوب سريعاً، وما يزيد من احتمالية هذا الأمر الأخير هو الموقف الأميركي الذي يبدو كمن يراجع الكثير من الحسابات والكثير من المعطيات بحذر وترقب لا يزالان مانعان لرمي واشنطن «ثوبها» الذي تلبسه منذ أن زار السفير الأميركي روبرت فورد ساحة العاصي بحماة شهر تموز من العام 2011، الحدث الذي أعطى «النار» زخماً كان من الواضح أن واشنطن تريد له أن يتصاعد ويتصاعد.
كاتب سوري