ثقافة وفن

ديروا الماء

| إسماعيل مروة

أغنية مزهرة للحياة هي التي أطلقها الرحابنة (ديروا المي)، نداءً لمالك النهر أو المتحكم به إغلاقاً وفتحاً، فالأرض العطشى لا تطلب غير الماء، ولا يرويها سوى النهر الذي ينتمي إليها، ويمر إلى جوارها، لا تعتمد الأرض على ماء النهر البعيد، ولا تنتظر ماء من نهر غريب عنها، ولن تكون الأرض العطشى معطاء بأي حال، لأنها ستتشقق وتصبح مأوى للقنافذ، التي ما إن يغمر الماء الأرض حتى تغيب وتصبح في باطن الأرض.. الأرض بخيرها وعطائها وغذائها تبحث عن الماء، وبغير الماء لا حياة للأرض، ولا حياة لغيرها، ولا حياة لمن يعيش عليها ويملكها.

غريب أن يبتلع واحدهم ماء النهر الهادر ويمنعه من الوصول إلى الأرض، فمهما جلب من خيرات ليست من أرضه فلن تكون بمستواها، ولن تقدم له الغذاء الذي يرجوه، وإن غلبه الوهم.. ما يجري في ضيعة الرحابنة يجري في كل ضيعة وبلدة ومدينة، والنهر الدائم الجريان عبر الزمن ينتقل من زمن إلى زمن، ويبقى المزارع يحمل قنديله أو فانوسه، وربما سار في العتمة ليحرس الماء القادم في ساقية فرعية صغيرة ناعمة، وبرموش عينيه يشكل حوضاً من تراب مقدس ليحيط بالشجرات والشتول.. الأنهار والسواقي تغمر الأرض والشتول إذا وجدت ساعداً يسحب الماء، أو يدير الماء كما تقول أغنية الأرض… والماء لا ينحرف وحده، والأنهار والسواقي لا ترغب بسقاية أرض وشتول من نفسها.. تتمنى الأنهار أن تفيض، ترجو خالقها دوماً أن تنهمر السماء ليصب فيها الماء، ولتبدأ طوفانها لتجرف ما تجده أمامها.

أما رأيت زبد شفتي النهر حين يسخر؟

أما رأيته وهو ينزل من الجرود البعيدة هائجاً؟

يجرف تراباً، يجرف شجراً، ويبلغ النشوة حين يجرف طفلاً كان على جانبه وحين يبتلع الطفل، يبتلع معه حصى وحجارة تساعد على طحنه بين شدقي طمعه الكبير، ويغطي الجسد ببعض الحطب والشجر، ويتجمع زبد شفتيه فوق كل شيء، فلا يبدو جسد الطفل الصغير..!

تعتب الشجرات والشتول التي تحب الماء!

لكن النهر الغاضب يهدم الأحجار التي تسوّر الأرض، يعالج الجذور ليقتلع، لا يكترث إن اقتلع أم لم يقتلع، يمرّ غاضباً مدمراً وكفى!

وحين تهدأ العاصفة السوداء، يخنع الماء، يتوقف النهر، يعود إلى الوداعة والنقاء، لا يتجاوز الحجارة المحيطة بالشتول، لكنه لا يسعى لإروائها إلا عندما يتقدم الساعد القوي ليفتح المجرى، ويدير الماء..

الأنهار لا تسقي من تلقاء نفسها

الأنهار لا تسقي إلا غصباً

ولا يحجز غضبها إلا القوة..

والهواء العاصف يتقاذف فتيل الضوء الذي يحمله ابن الأرض..

يحاول أن يطفئ الضوء

هل يقدر؟

وتغوص قدما ابن الأرض مع الماء

القنفذ يخزه.. يثقب قدميه.. إبره تطال كل شيء في القدمين العاريين.

بين العتم والضوء تأخذ الزهور مجالها

يبني الفلاح جدرانه ليحيط شتوله

يحدّد المجرى للماء كما يجب أن يكون

يعجز الماء عن الدخول إلا بإرادته

وحين يحين الوقت يأمر الأنهار

تحتاج كل شيء لتصل إلى ما تريد

ربما تحدث كوارث من الماء المتدفق، ربما يحدث أمر ما يطمر الأرض، لكن الماء يدخل إلى باطن الأرض من جديد، يشكل طبقة وطبقات من الطين والتراب، وحين تنجلي السماء تعود الأرض للإنتاش والإنتاج، لا تحتاج يداً أو زرعاً، من تلقائها يبدأ النبات الأخضر، لا يحتاج إلى تهذيب، لأنه يشبه ابن الأرض في كل تفاصيله، وتخرج مخلوقات الأرض لتبدأ رحلة جديدة.

ثمة فرق شاسع بين ماء ونار، بين اكتناز واحتراق.. حين تحترق الأرض تعجز عن فعل أي شيء، يحترق جوفها ،تموت مخلوقاتها، تتشوه صورتها، يجأر إنسانها بالدعاء ولا مجيب.. وتنتهي بالسواد.. وحين تغمر المياه الأرض تعود بالطين والتراب، تتشقق لتبدأ منها الحياة.

دعوا المياه تصل إلى كل شيء ليحيا وينبت

لا تحجزوا المياه إكراماً لأقدام السقاة من القنافذ..

لن يحصد حاجز الماء سوى القنافذ..

أو غنوا مع اللحن الفيروزي: ديروا المي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن