القتل البارد
| حسن م. يوسف
قبل سنوات توصلت للاستنتاج التالي: الإبداع هو أحد ثلاثة؛ أن تقول شيئاً جديداً بطريقة جديدة، أو أن تقول شيئاً جديداً بطريقة قديمة، أو أن تقول شيئاً قديماً بطريقة جديدة، وكل عمل إبداعي لا تتوافر فيه إحدى هذه الصفات، لا يعدو كونه مجرد تكرار لأشياء مألوفة تجري في مسالك معروفة.
قبل فترة سألني أحدهم كيف أرى العلاقة بين الإبداع والحرب؟ للوهلة الأولى تهيأ لي أن العلاقة بينهما ضدية لأن الإبداع فعل خلق والحرب فعل موت. لكن هذا التصور لم يصمد طويلاً إذ سرعان ما تبين لي أن العلاقة بين الحرب والإبداع أقرب إلى التكاملية منها إلى التضاد، إذ لا بد من فعل الخلق كي يتم فعل القتل. والقتل هنا لا يقتصر على البشر والحيوانات والأشجار، بل يتجاوز ذلك كله إلى الأفكار والمفاهيم والأشكال الفنية.
القتل هو أول ما يتبادر إلى ذهن المرء عند التفكير بالحرب! والقتل فعل بغيض منكر تنهى عنه كل الأديان والشرائع السماوية والأرضية. غير أن بني البشر اخترعوا نوعاً آخر من القتل، يخطر لي أن أسميه القتل البارد. جرب الإنسان القتل البارد في بحثه عن الغذاء ضد أبناء مملكة الحيوان، ثم قام بقتل بعض أبناء جنسه طمعاً فيما يملكونه من خيرات، ولكي يبرر ذلك لنفسه فقد أسطَرَ القتل باتجاهين متناقضين يخدمان غاية واحدة، إذ شيطن أعداءه وجعل قتلهم عملاً بطولياً خارقاً، وأضفى على بعض ضحاياه هالة من القداسة ارتقت بهم إلى ما فوق مستوى البشر.
منذ بدء الحرب المجنونة على بلدي سورية، ثمة سؤال يلح عليَّ ولا أجد له جواباً: هل القتل هو أسوأ ما في الحرب؟
يبدو لي أن التجار الذين يتفننون في سرقة اللقمة من أفواه الناس، ربما يكونون أحياناً أسوأ ما في الحرب. فأنا أحترم الموت بوصفه النقطة التي تختتم بها جملة الحياة، إلا أنني أتعاطف مع المظلوم الجائع أكثر من المظلوم الميت. ربما لأن المظلوم الجائع هو مشكلة تتفاعل وتتفاقم، في حين أن المظلوم الميت هو مشكلة باردة أخذت بعدها الأقصى وانفجرت.
في أحيان أخرى يبدو لي ككاتب أن أسوأ ما في الحرب هو أن أضطر لأن أغض النظر عن الفاسدين المفسدين على الجبهة التي أقف عليها، لا خوفاً من أن أسجن بتهمة إضعاف الشعور الوطني، بل خوف من أن ينتف الباطل ريش كلماتي الساعية لخدمة الحق ويستخدمها في سهامه ضد أهلي ووطني!
بعض الكتاب يركبون خيول الحرب ويمتشقون استعاراتهم وتشابيههم ومبالغاتهم، وينخرطون في المعارك لا لرصد ما يجري في ميادينها، بل لتغيير موازينها، وبعض الكتاب يعتبرون الحرب مغامرة شيقة، ومعظم هؤلاء يفتقرون ً للحساسية الإنسانية والرصانة الفكرية.
صحيح أن البشر هم الذين يشنون الحروب ويتحملون مسؤوليتها، لكن الحروب من حيث طبيعتها ونتائجها أقرب إلى الكوارث الطبيعية، إذ لا أحد يمكن أن ينتصر في الطوفان أو الزلزال. أحسب أن أخطر ما في الحرب على الإبداع، برأيي، هو أنها تخلخل العلاقة بين الأنا والآخر، مما ينتج عنه تشوه مفهوم «الأنا» ومفهوم «الآخر»، وعندما يحصل هذا التشوه أو ذاك، أو كلاهما معاً، يجد الكاتب المبدع المعني بالإنسان نفسه مهدداً بالتهميش أو الانزياح عن حقيقته والتحول إلى بوق معني بمصالحه ومصالح الضفة التي يقف فوقها.
قبيل وفاته بقليل قال الكاتب الأميركي الساخر ويل روجرز: «لا يمكنك القول إن الحضارة لا تتقدم، فهُم في كل حرب يقتلونك بطريقة جديدة». والحق أن خيال البشر في مجال القتل والتخريب لا حدود له، فمن منا كان يتصور أن جرة الغاز المنزلية الوديعة ستتحول ذات يوم الى قذيفة يطلقها مدفع من جهنم؟!