قضايا وآراء

تصاعد معطيات الحرب والردع.. أين تكمن نقطة التوازن؟

| د. مازن جبور

يوماً بعد آخر تتصاعد معطيات الحرب بالتوازي مع تصاعد معطيات الردع، في محاولة على ما يبدو من جميع الأطراف لكسب وقت تفاوضي إضافي، بغية التمكن من الوصول إلى نقطة التوازن بين الردع والحرب، أي وصولاً إلى اللاحرب، وهذا لا يعني الاستقرار على أي حال، وإنما خفض للتصعيد في المنطقة، وهو ما يحتاج لتطور لافت على صعيد ملف العدوان على غزة، من قبيل اتفاق يحظى بقبول الأطراف جميعها.

منذ بدء عملية طوفان الأقصى، قبل ما يزيد على 300 يوم، تغلي منطقة الشرق الأوسط على بركان يقذف شرارات الحرب وحممها في كل حدب وصوب، مع تصعيد كيان الاحتلال الإسرائيلي لعدوانيته في المنطقة، من سورية إلى لبنان والعراق واليمن وإيران، أي على امتداد محور المقاومة، في محاولة منه لجرها إلى حرب إقليمية مفتوحة، يكسب فيها الدعم العسكري المباشر للغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية، محاولاً الاستثمار في قواتها التي حشدتها في المنطقة إلى جانب العديد من الدول الغربية الداعمة لكيان الاحتلال، متخذة من طوفان الأقصى ذريعة، لتملأ الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بالبوارج العسكرية وحاملات الطائرات.

إن الحشود السابقة مثلت معطيات جدية عن مشروع عدواني جديد وكبير في المنطقة، نهايته قد تكون حرباً إقليمية مفتوحة، تنهي حالة التصعيد والتوتر والغليان التي يعيشها الشرق الأوسط، وسط دمار لا مثيل له، ولمعطيات التصعيد تلك مؤشرات عن تنافس دولي عميق، أبعد من حدث غزة، ارتبط بداية بمشروع الممر الاقتصادي الذي من المقرر أن يربط بين جنوب آسيا وأوروبا عبر الشرق الأوسط، وواضح أن هدف المشروع سياسي، وذلك لتعطيل مبادرة الحزام والطريق الصينية أو التأثير عليها على الأقل، ومن ثم كان لا بد من خطوات تمهيدية للمشروع، الذي سيعبر الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى البحر الأبيض المتوسط ومن ثم أوروبا، وهو يرتبط بتفاصيل أصغر منها الميناء العائم الذي اقترحته الولايات المتحدة الأميركية بذريعة إيصال المساعدات إلى قطاع غزة المحاصر، والذي أمن لها حشد قواتها البحرية قبالة شواطئ غزة، تحت تلك الذريعة.

في خضم ذلك، امتاز محور المقاومة بعقلانية منقطعة النظير، إذ لم يسمح للاحتلال الإسرائيلي ومن يقف خلفه، بجره إلى حرب إقليمية مفتوحة، بل بقي في إطار ما سماه جبهات الإسناد، من لبنان إلى اليمن إلى العراق، حتى عندما ذهب كيان الاحتلال بعيداً في عدوانيته، بقصد جر الإقليم إلى الحرب، وقام بالاعتداء على القنصلية الإيرانية في دمشق، فإن الرد الإيراني كان واضحاً منه، أن طهران مستعدة لكل الخيارات، وفي هذا السياق لم يخف شكل الرد وطبيعته والأثر التدميري الذي أحدثه، رغبة إيرانية في عدم الذهاب في الوقت الراهن إلى حرب مفتوحة، وهذا ربما يعود إلى حشد أكبر للرأي العام العالمي ضد إسرائيل، وحشد أكبر عدد من الدول المناهضة لكيان الاحتلال والداعمة للقضية الفلسطينية.

لقد تجاوزت المنطقة الحرب المفتوحة، بعد حادثة القنصلية الإيرانية بدمشق، واستمرت الحال على معارك في غزة وسط مساندة جبهات الإسناد بكثافة، ترافق ما سبق مع إعلان أميركي عن مساعٍ لتحقيق صفقة وقف إطلاق للنار وتبادل الأسرى، وهو ما كان السلوك الإسرائيلي باستمرار يشير إلى عدم الرغبة في ذلك، إذ إن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كان يعطل باستمرار التوصل لأي اتفاق بهذا الخصوص، ولعل هذا الأمر مرتبط بحجم الضغوط الداخلية عليه في حال انتهاء الحرب، وهو ما يدفعه إلى إطالة أمد الحرب، تحت يافطة الاستفادة من الموقف الغربي الداعم له.

عاودت إسرائيل التصعيد بضخ المزيد من معطيات الحرب على الساحة الإقليمية، إذ أقدمت على استهداف رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، كما قامت بتجاوز الخطوط الحمر في لبنان، واستهدفت القائد العسكري في حزب الله، فؤاد شكر، في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهو ما جعل معطيات الحرب تتصاعد للدرجة القصوى، إذ أعلنت كل من طهران وحزب الله عن حتمية الرد، الرد الموجع للكيان، موضحة أن لا علاقة لما يجري من عمليات إسناد بالرد، أي بمعنى أن العمل على جبهات الإسناد سيستمر كما هو بشكله اليومي المعتاد، وأن الرد سيكون على الجرائم التي قام بها كيان الاحتلال، ومن ثم فإن شكل الرد سيتناسب مع شكل الجريمة، وهو ما يفسر ما تناقلته وسائل إعلام إسرائيلية عن شكوك بقيام المقاومة اللبنانية بتصوير منزل نتنياهو.

ما سبق جعل المنطقة تتأهب للحرب، فبدأت شركات الطيران تلغي رحلاتها من وإلى لبنان، وبدأت الدول تحث رعاياها على مغادرة لبنان فوراً، وبدأت دول محيطة بلبنان تعلن عن إغلاق مجالها الجوي، كلما جاءت معلومات استخباراتية عن احتمال وقوع الرد الإيراني في ليلة محددة، لكن حتى اليوم لم يتم الرد، وإنما يخوض محور المقاومة حرباً نفسية ضد الكيان أقضّت مضاجعه.

في الوقت ذاته، فإن معطيات الردع كانت كثيرة، فبدأت المقاومة اللبنانية بتصعيد ضرباتها ضمن جبهات الإسناد، وقامت بنشر فيديوهات تحت اسم هدهد 1 و2 و3، التي تضمنت تصوير حي مباشر وبدقة عالية للمواقع الحساسة في كيان الاحتلال الإسرائيلي، وهنا يبرز سؤال لا بد أنه يطرح وبقوة في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية، هل هناك هدهد 4 و5 و6…؟ وهل بات الكيان مكشوفاً بالكامل أمام المقاومة اللبنانية؟

تسهم تلك الفيديوهات في تحقيق الردع لكيان الاحتلال، وتمنعه من التفكير في الإقدام على أي حرب ضد لبنان، لأن الأسئلة السابقة تسللت بحرفية عالية إلى العقل الإسرائيلي، ولن تجيب عنها إلا الحرب، فهي التي ستكشف وهن الكيان أمام عمل المقاومة الحثيث لضبط موازين المعركة القادمة لمصلحتها، ومن ثم فإن على إسرائيل أن تعيد التفكير مراراً وتكراراً قبل الشروع في أي حرب.

عاودت المقاومة اللبنانية إرسال رسائل الردع الخاصة بها، فجاء فيديو عماد 4، ليمثل صفعة لكيان الاحتلال، علّه يصحو من سعيه الدائم نحو جر المنطقة إلى حرب مفتوحة، إذ إن عماد 4 عبارة عن قاعدة صاروخية إستراتيجية متكاملة تحت الأرض، جعلت الكيان في حال ذهول فكل محاولاته لمنع تعزيز الترسانة الصاروخية للمقاومة اللبنانية قد فشلت، كذلك فإن الأسئلة المطروحة على أجهزته الأمنية والاستخباراتية، كثيرة وكبيرة، فمثلاً: هل هناك عماد 1 و2 و3؟ وماذا لو أن هناك عماد 5 و6 و7 و… وعماد 50؟ هذه كلها أسئلة تتسلل إلى عقل قادة كيان الاحتلال، ولم يجدوا إجابات عنها، وأي حرب يمكن أن يخوضها من دون الإجابة عن تلك التساؤلات؟

من جانبها حاولت واشنطن إرسال رسائل ردع من النوع الدبلوماسي والعسكري، إذ عملت مع الوسطاء في ملف العدوان على غزة، إلى العمل السريع على ملف المفاوضات تحت يافطة الرغبة في التوصل إلى اتفاق، لعله يمنع الانزلاق إلى حرب كبرى، وفي حال لم يتم ذلك، فإن من شأن خطوة كهذه أن تؤجل الرد الإيراني ورد المقاومة على مقتل شكر وهنية، بغية عدم تحميلهما مسؤولية فشل المفاوضات، وهو ما يعطي إسرائيل وداعميها وقتاً إضافياً، إما لشن عدوان أكبر أو لاستكمال تجهيزاتهم وحشودهم في المنطقة لخوض حرب إقليمية مفتوحة، لذلك فإن واشنطن تحاول أن تروج إلى احتمالية التوصل إلى اتفاق من خلال المفاوضات، لكونها تعلم أن مؤشر محور المقاومة سواء في الجنوح إلى الحرب أم إلى السلم، هو المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، ومن ثم فإن أهم ما يميز محادثات الدوحة أن هدفها الرئيس لم يكن التوصل إلى اتفاق بقصد الاتفاق، بل بقصد الحد من التصعيد في الشرق الأوسط، وتأخير المواجهة المباشرة بين كل من إيران وحركات المقاومة من جهة وبين إسرائيل من جهة ثانية.

والسؤال الأبرز هنا، كيف يمكن أن تصل المنطقة إلى حالة التوازن؟ بمعنى توازن معطيات الحرب ومعطيات الردع ما يمنع الحرب على المدى المنظور، وتبدو الإجابة واضحة، يمكن ذلك من خلال التوصل إلى اتفاق لوقف العدوان على غزة، إذ إن من شأن اتفاق كهذا أن يوقف التصعيد ويمنع الحرب، ولو أنه لن يكون اتفاقاً منصفاً للفلسطينيين، لكنه سيكون منصفاً لشعوب المنطقة جميعاً، ولو أنه لن يقود المنطقة إلى حلول جذرية لأسباب الصراع فيها، إلا أنه سيقودها إلى حالة استقرار مرحلية، ويبعد عنها شبح الحرب.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن