توغل أوكراني في كورسك.. لا يصح توصيفه بـ«الدفرسوار»؟
| عبد المنعم علي عيسى
فجر يوم 6 آب الجاري دفع الجيش الأوكراني بنحو ألف من قوات النخبة للتقدم نحو منطقة «سومي» المقابلة لمقاطعة كورسك التي تحظى بخصوصية تاريخية لدى الجيش الروسي الذي لا تزال ذاكرته تختزن حقيقة مفادها أن التراجع الألماني الكبير عن الأراضي السوفييتية إبان الحرب العالمية الثانية كان قد بدأ منها.
ثمة تقارير وازنة، بعضها صادر عن جهات مقربة من موسكو، تؤكد أن جبهة كورسك كانت تمثل «خاصرة رخوة» في الدفاعات الروسية نظرا لقلة تحصيناتها أولا، ثم لكون القوام الأكبر للجيش الموجود فيها هو من المجندين الذين لا يتمتعون بخبرة قتالية تمكنهم من صد أي هجوم محتمل ثانيا، وتضيف تلك التقارير أن «ثغرة» كورسك لا قيمة لها تذكر من الناحية العسكرية، بمعنى أن «الثغرة» لن يكون لها أي تأثير يذكر في سير المعارك على جبهتي خاركيف ودونيتسك اللتين ظلتا واقعتين تحت ضغط روسي لم ينقطع برغم مرور أسبوعين على «ثغرة» كورسك، والراجح هنا هو أن ثمة تقديرات أوكرانية، وهي تعتد من دون شك بنصح غربي، كانت تقول إن اختراقاً ما يمكن أن يحدث في أي من مناطق الجبهة الممتدة لأكثر من 1500 كم سوف يؤدي حتماً إلى تخفيف الضغط على تينك الجبهتين بعد قيام الروس بسحب عديد من قواتهم منها لسد «الثغرة»، لكن اللافت أن ذلك لم يحصل والراجح هو أنه لن يحصل نظرا لاعتبارات إستراتيجية قوامها أن مسار المعركة، ونتائجها، سوف يتحدد في الشرق وليس في أي مكان آخر، وفقاً لما أعلنه وزير الدفاع الروسي السابق ورئيس مجلس الأمن الروسي راهنا، سيرغي شويغو، بعد أشهر من انطلاق العملية الروسية في أوكرانيا، والإستراتيجيات لا تتغير بتغير الأشخاص ما لم تستجد معطيات كبرى، من عيار أن تقوم واشنطن، مثلا، بتزويد كييف بصواريخ «كروز» التي يمكن لها أن تهدد العمق الروسي وتتيح فعالية أكبر لطائرات «إف 16» التي حصلت الأولى عليها مؤخرا، الأمر الذي لم يحصل حتى الآن، لكنه لا يزال بين أخذ ورد، فيما ذكرت صحيفة «بوليتيكو» قبل أيام أن «إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن باتت منفتحة اليوم (تقصد بعد الهجوم على كورسك) أكثر على تزويد أوكرانيا بصواريخ كروز بعيدة المدى»، وإن كان من الصعب ترجيح كفة ذلك الفعل لاعتبارات عدة أبرزها أنه قد يشكل مدخلاً لـ«تفلت» من الصعب التنبؤ في المدى الذي يمكن أن يصل إليه، فمن الثابت أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يمكن له قبول خسارة الحرب، ناهيك عن أن بنيان الدولة الروسية لا يحتمل الهزيمة وهو على مسافة لا تزيد كثيراً عن عقود ثلاثة من الهزيمة في أفغانستان التي أفضت إلى ما أفضت إليه.
نشرت صحيفة «واشنطن بوست» في أعقاب الهجوم على كورسك تقريرا قالت إنها تستند فيه إلى مصادر رفيعة، والتقرير يقول إنه «كان من المقرر خلال شهر آب الجاري إجراء مفاوضات روسية أوكرانية بالدوحة»، ويضيف التقرير أن الهدف منها هو «وضع حد للضربات التي تستهدف البنى التحتية للطاقة من الجانبين»، ثم يختم التقرير بأن الأمر برمته قد «خرج عن مساره بسبب التوغل الأوكراني المفاجئ في منطقة كورسك الغربية الروسية»، والراجح هو أن الكشف عن تلك المفاوضات يضع الأحداث التي جرت بعد 6 آب، والتوغل الأوكراني في كورسك، في أحد مسربين لا ثالث لهما، فإما أن يكون الفعل قد جاء نتيجة لقراءة أميركية تقول إن الجيش الأوكراني بات في وضعية تقارب الانهيار ولذا فإن من الأجدى، والحال هذه، القبض على «ورقة ما» قبيل الجلوس إلى طاولة المفاوضات خصوصاً أن المدة الفاصلة عن الانتخابات الأميركية باتت قصيرة جدا، وإما أن هناك قراراً غربياً أميركياً بوقف التفاوض قبل أن يبدأ، والشاهد هو أن الرئيس بوتين أعلن يوم الإثنين الماضي خلال اجتماع لمجلس الأمن الروسي عن «رفض احتمال إجراء محادثات سلام مع أوكرانيا».
اليوم وبعد مرور أسبوعين على «المغامرة» الأوكرانية، التي لا يصح تشبيهها بـ«ثغرة الدفرسوار» التي حدثت على الجبهة المصرية إبان حرب تشرين 1973، يمكن القول إن «وهج» الفعل قد خبا بريقه بعد أن منح كييف جرعة أمل كان الظن أنها ستكون مفيدة قبيل مواسم التفاوض أو الحصاد، والراجح هو أن الأوكرانيين سيكتشفون أن المخاطر التي تحملها «المغامرة» لا تقاس بالمكاسب المتأتية منها، أو تلك المنتظرة إذا ما دارت رحى التفاوض، فالجيش المنهك بعد نحو 30 شهراً من الحرب، والذي يعاني من قضايا دعم لوجستي كبيرة برغم قوافل الإمداد الغربية التي لم تنقطع، سوف يكتشف أن «جرعة» كورسك قد دفعت به إلى مزيد من الإرهاق، خصوصاً أن الجيش الروسي ظل عند هدفه الرامي إلى وضع جبهتي خاركيف ودونيتسك تحت ضغط آخذ بالازدياد والتنامي، وسوف يكتشف أن الأحمال التي ألقاها الغرب على عاتقه كانت أثقل بكثير من قدرات «عموده الفقري» الذي بدا منذ وقت وكأنه يميل إلى انحناء تدريجي لا أمل معه في العودة إلى «الاستقامة» من جديد.
كاتب سوري