الدخان الأبيض ينبعث في أوهام وأهداف الساكن بالبيت الأبيض
| محمد نادر العمري
موجات من الدخان الأبيض الذي أطلقته الولايات المتحدة الأميركية من بيتها البيضاوي قبيل انعقاد محادثات الدوحة والقاهرة لوقف سبل وآليات التوصل لاتفاق يوقف العدوان على قطاع غزة، دخان من دون نار، وحجم من التصريحات المتفائلة هي أقرب للفقاعات الإعلامية، لم تجد مكاناً لها في آفاق الشرق الأوسط الممتلئ بزحمة العوامل والظروف المتجهة نحو التصعيد أكثر من التهدئة المضبوطة والهشة، فزيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن التاسعة للمنطقة، تبدو وفق كل المؤشرات، أنها لن تصل لأي نتائج إيجابية يمكن ترقبها سواء من زيارات بلينكن أم أي من المسؤولين الأميركيين، الذين يطلقون العنان لتصريحاتهم الرنانة والممتلئة بالإنسانية، ويذهبون خلف الكواليس لتأييد السلوك العدواني الإسرائيلي على قطاع غزة، لا بل، يحرصون كل الحرص، على إبداء واجبهم في الدفاع عن هذا الكيان، ويغضون الطرف عن كل جرائمه وانتهاكاته ومجازره تجاه فلسطين ومدنها وشعبها من ناحية، والعبث بأمن النظام الإقليمي من ناحية أخرى.
لعل هذا التوصيف أقرب إلى الحقائق التي تسود سلوك ومواقف الولايات المتحدة منذ شهور، ويمكن الاستدلال عليها من خلال تصريحات بلينكن ذاته عقب اجتماعه مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي استمر لـ3ساعات، بقوله: إن بلاده تسعى للعمل ضمن مسارين: الأول، جهود تبذلها الولايات المتحدة لكبح التصعيد في المنطقة، عبر تعزيز الدفاع عن إسرائيل، والبعث برسالة إلى كل الجهات لمنع تصعيد النزاع والثاني المسار التفاوضي، عندما جزم بأن الخبراء سيعملون خلال الأيام القادمة على تقديم فهم واضح لتنفيذ الاتفاق، الذي أكد قبول نتنياهو لصيغته، وسيتم الاستعانة بالوسطاء الإقليميين، مصر وقطر، لدفع المقاومة الفلسطينية بالقبول به، ولكن عن أي اتفاق يتحدث بلينكن؟
ما تم تسريبه بعد الاجتماعات التي استضافتها العاصمة القطرية الدوحة يومي الخميس والجمعة 15 و16 آب الماضي، لا يغدو اتفاقاً حقيقياً، فهو عبارة عن اجتزاء من مشروع بايدن الذي تم تبنيه بقرار من مجلس الأمن 2735، وخاصة المرحلة الأولى منه والمتمثل في إطلاق ما تبقى من الأسرى لدى المقاومة، الأحياء والأموات، والمقدر عددهم بـ115 أسيراً، مقابل هدنة مؤقتة بغطاء إنساني لا تستوجب التوصل لوقف إطلاق نار مستدام في قطاع غزة، وكذلك لا يلزم الكيان بالانسحاب من القطاع ولاسيما معبر «صلاح الدين» ولا حتى من محور فيلادلفيا ومعبر رفح الحدودي مع مصر، وتمسك نتنياهو بهذه الجزئية من المقترح، وربط موافقته للتوصل بأي اتفاق بتطبيق ذلك، وهو ما أشار إليه نتنياهو بعد لقائه بلينكن عندما عبر عن تقديره الكبير لما وصفه بـ«التفهم الذي أبدته الولايات المتحدة لمصالح إسرائيل الأمنية»، رغم أن وزير الدفاع يوآلف غالانت، قال حسب «القناة 14» الإسرائيلية: «من الممكن والضروري التخلي عن محور فيلادلفيا لإنجاح المحادثات»، وهي النقطة التي شاركه بها رؤساء طاقم المفاوضات الذين أكدوا لنتنياهو في النقاشات المغلقة، أنه «من دون التنازل في موضوع محور فيلادلفيا، لن تكون هناك صفقة ولا إعادة الأسرى».
هذه التعقيدات التي يضعها نتنياهو أمام مسار المحادثات والتي دفعته للرد على تخوفات الفريق المفاوض بالقول: «إن لم توافق حماس على سيطرتنا على معبر فيلادلفيا لن يكون هناك اتفاق»، تجعلنا أمام حقيقة لا يمكن التشكيك بها، والتي تتجلى أن رئيس حكومة هذا الكيان وإدارة البيت البيضاوي يريدان إبقاء بنية المحادثات السياسية قائمة ولو أنها لم تتوصل لأي اتفاق، ويمكن إرجاع ذلك لمجموعة من الأسباب وهي:
أولاً: على الصعيد الإسرائيلي فإن نتنياهو يريد من إدارة التفاوض والمشاركة بها تحقيق ما يلي:
– في حال نجحت الولايات المتحدة من فرض الاتفاق بالقوة وبمساعدة الوسطاء، وهو خيار مطروح، يكون بذلك نتنياهو قد حقق أحد أهدافه والمتمثل باستعادة الأسرى ومن ثم العودة للعمل العسكري العدواني على قطاع غزة.
– رمي الكرة لملعب المقاومة من خلال إبعاد المسؤولية في إخفاق المحادثات عن نتنياهو قدر الإمكان، ومحاولة استغلال الحشود العسكرية الغربية في المنطقة لإلصاق إخفاق المفاوضات بالفصائل الفلسطينية ومن ثم جر هذه القوات ولاسيما الأميركية منها نحو صراع ضد محور المقاومة عموماً والجمهورية الإسلامية الإيرانية بشكل خاص.
– الذهاب للمفاوضات بغرض التفاوض فقط، وذلك لتخفيف الضغوط الداخلية والخارجية عليه للقبول بصفقة، قد تطيح به كرئيس للحكومة الإسرائيلية.
– تمرير الوقت حتى انتهاء العملية الانتخابية الرئاسية الأميركية ومعرفة شخصية الرئيس القادم، وهذا يلعب تأثيراً في توجهات نتنياهو المقبلة ولاسيما في حال عودة الجمهوري دونالد ترامب، الذي سيمنح الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، جرعة ثقة ودعم أكثر لتحقيق مصالحهم على مستوى المنطقة ولاسيما تصعيد الأوضاع مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ثانياّ_ على مستوى الولايات المتحدة الأميركية، إذ باتت كل المؤشرات تؤكد أن إدارة البيت البيضاوي الديمقراطية برئاسة جو بايدن، تسعى في المقابل لتحقيق مجموعة أهداف من خلال المفاوضات، أبرزها:
– الحفاظ على البيئة التفاوضية مستمرة خشية تصاعد الأوضاع في المنطقة، ولاسيما في حال قيام إسرائيل بعمل عسكري استباقي ضد لبنان أو إيران قبل حصول الرد على اغتيال الشهيدين فؤاد شكر واسماعيل هنية، اللذين اغتالتهم إسرائيل نهاية شهر تموز الماضي وتوعدت المقاومة بالرد والثأر على جريمة اغتيالهما ولتكريس قواعد الاشتباك، وكذلك الخشية الأميركية من رد مضاد تنفذه تل أبيب على رد المقاومة، لذلك نلاحظ مسارعة واشنطن لعقد المباحثات وطرحها تصريحات متفائلة ليس بهدف التوصل لاتفاق حول غزة، بقدر سعيها لاحتواء التصعيد بالمنطقة، الذي قد تنجر إليه بعد جلب ثلث قواعدها البحرية في الشرق الأوسط وتمركزها في البحر المتوسط.
– سعي إدارة بايدن في حال حصول أي خرق بالمباحثات لاستثمار ذلك على الصعيد الداخلي الأميركي، لدعم المرشحة الديمقراطية كاميلا هاريس، وهذا الاستثمار باستمرار ضخ الدماء لملف التفاوض على حساب دماء الفلسطينيين، لتحقيق أهداف انتخابية أميركية، كان جلياً منذ تأجيل زيارة بلينكن للمنطقة، وجعلها بتوقيت يتزامن مع انعقاد المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي في ولاية شيكاغو، الذي شهد تجمعات وتظاهرات رافضة للدعم الذي أبداه جو بايدن للكيان الإسرائيلي.
– محاولة الإدارة الحالية بقيادة بايدن برفع الاتهامات والمسؤولية عنها جراء الدعم المستمر للكيان، وذلك من خلال تلميع صورة هذه الإدارة المتهمة بالمشاركة في العدوان على قطاع غزة، عبر إظهار جهودها ومساعيها الإعلامية لوقف العدوان أمام الرأي العام الداخلي والدولي.
خطورة الاقتراحات التي تبناها الوسيط الأميركي، من دون مراعاة واقع الميدان، وموقف الفصائل المقاومة، تجعلنا أمام مسار هو أقرب نحو تصعيد محتمل على مستوى المنطقة، ولاسيما أن كل دول محور المقاومة الحليفة للفصائل الفلسطينية ربطت تهدئة الأوضاع بالمنطقة بوقف إطلاق النار في غزة، ونتنياهو يستخدم موضوع محور فيلادلفيا وبوابة رفح لابتزاز الوسطاء، ومازالت حتى اللحظة الولايات المتحدة الأميركية التي تتباكى على الوضع الإنساني في غزة زوراً، تدعم توجه نتنياهو بالتوصل لصفقة جزئية، يمكن لواشنطن استغلالها لتحقيق مكاسب متعددة الاتجاهات، بما في ذلك مكاسب داخلية في تدعيم موقف المرشحة الديمقراطية كاميلا هاريس في حال النجاح بإطلاق الأسرى الخمسة الإسرائيليين الذين يحملون الجنسية الأميركية.
كاتب سوري