بين الواقع والأمنيات.. تضعضع الجبهة الداخلية لإسرائيل فماذا يريد نتنياهو من ترامب؟
| فراس عزيز ديب
منذُ أن ظهر مصطلح «الحرب النفسية» لأول مرة في العام 1930، فإنه تحول بشكلٍ متدرِّج ليشكل أحد أهم ركائز الحروب المباشرة وغير المباشرة لتحقيق الانتصار عبر استخدام كل الوسائل الممكنة لزعزعةِ الجبهات الداخلية خلال الحروب، هذا السلاح قد ينجح بأدواتٍ بسيطة وبدائية لكنه في الوقت ذاته قد يفشل رغمَ أن استخدامه قد يبدو مدروساً وأدواته مشغولة بعناية، لأننا في كلتا الحالتين من نجاح أو إخفاق فإن الأمر يعتمد إذا ما كانت الجبهة المستهدَفة محصنة على كل الصعد بما فيها المادية والمعنوية، هذا التحصين قد يراه البعض بتعميق الديمقراطية التي تجعل الحكومات منبثقة عن إرادة الشعب، فتدافع عن حقوقه حتى ولو بالحرب، هناك من يراها بالوعي والذي هو جزء لا يتجزأ من الديمقراطية المبنية على حرية التعبير، ختاماً هناك من يراها بالبحبوحة الاقتصادية التي تجعل الشعب محصناً، لكن كما يقال فإن لكل قاعدة استثناء ولكل نظرية معنوية مغالطات قد تدحضها، فكيف ذلك؟
مع كل حربٍ يخوضها الكيان الصهيوني ضد الدول العربية، كان اللغز الدائم هو السر في تماسك جبهتهِ الداخلية، التي بدَت فعلياً محصنة ضد كل خرق، بل يمكننا القول إنها أحد أسباب نجاحه في تحقيق إنجازاتٍ على الأرض، لكن مع مرور الوقت بدا وكأن الكيان بدأ يفقد هذه الميزة رغم المرجعية الدينية لعقيدة الدولة المتمثلة بالدفاع عن «أرض الرب» التي أوصى بها لـ«شعب اللـه المختار»، هذا الاهتزاز بدا واضحاً في حرب تموز من العام 2006، أما اليوم وبعد الحرب المفتوحة على كل من سورية ولبنان وفلسطين، فلم يعد الحديث عن انهيار الجبهة الداخلية للكيان الصهيوني حديثاً مقتصراً على الدعاية الإعلامية التي يبثها «أعداء» إسرائيل، إن جاز التعبير، لكننا نتحدث عن تخوفات باتت الشغل الشاغل لكل أنصارها في داخل فلسطين المحتلة وخارجها، ولو حاولنا إيجاز تخوفات من يقرعون جرسَ إنذار بداية انهيار الجبهة الداخلية للكيان، لتحدثنا عن أهم المعطيات الرئيسية:
أولاً: ديكتاتورية القرارات
إن «إسرائيل تغرق أكثر وأكثر، نحن على حافة الهاوية»، هذا الكلام لم يذكرهُ أحد محللي قناة «المنار» بل هو مقتطع من مقال كتبه الجنرال الإسرائيلي المتقاعد إسحاق بريك في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أول من أمس، مهاجماً كلاً من وزير الحرب يوآف غالانت ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لأنهما حسب رأيه ورطا الكيان بحربٍ لا نعرف متى ستتحقق أهدافها، هذا إن كان هناك من أهدافٍ أساساً!
تعترف الكثير من الأوساط السياسية الأوروبية بأن من نقاط الضعف المهمة التي عانى منها الكيان الصهيوني خلال هذه الحرب، هي وجود بنيامين نتنياهو على رأس الحكومة، نتنياهو الذي لم يعد يخُفي أبداً طموحاته باستمرار الحرب دفاعاً عن مستقبلهِ أولاً ومن ثم مستقبل دولة الاحتلال، يقود حكومة الحرب بقراراتٍ ديكتاتورية لاتقبل النقاش، لتثبت هذه القرارات هشاشة الائتلاف الحكومي الذي دفع نتنياهو لتقديــم تنازلات كبيرة لليمين المتطرف المتمثل بكل من ايتمار بن غفير، وبتسائيل سموتريتش بهدف الحفاظ على الائتلاف الحكومي، هذا الإذعان الذي يعاني منه نتنياهو ساهم مثلاً في إطلاق يد المستوطنين في مستوطنات الضفة الغربية وتحويلهم إلى ذئاب بشرية تهاجم كل من يعترض طريقها بمن فيهم اليهود الذين لا يرغبون بتوسعة رقعة الصراع لتشمل مناطق الضفة، حالهم بذلك حال الساسة الأوروبيين الذين يرون بالهجوم على مناطق الضفة نقطة ضعف ستزعزع الجبهة الداخلية للكيان أكثر وأكثر، بعض الإسرائيليين تحدث فعلياً عن تحول هؤلاء المستوطنين إلى قنابلَ موقوتة لا نعلم متى ستنفجر!
على الجانب الآخر تركت حالة التردد التي يعاني منها نتنياهو في قبول صفقة وقف الحرب مقابل اتفاق تبادل الأسرى، الكثير من الدلائل بأن نتنياهو لا يعيش أفضل قراراته السياسية، والسبب أنه لم يستطع تقديم البدائل حتى الآن، فالبديل المنتظر للتعنت في رفض وقف إطلاق النار إما تحقيق عمليات نوعية تهدف لتحرير الأسرى أحياء أو تحقيق إنجازات نوعية في تحييد المقاومة الفلسطينية، لكن لا هذا تحقق ولا ذاك، فصواريخ المقاومة وعملياتها مازالت تستنزف قوات الاحتلال حتى ولو كان صدى العمليات قد قل خارج حدود القطاع، لكن المقاومة لم تستسلم وهذا بحد ذاته يمنع نتنياهو من الاحتفال بتحقيق انتصار لحربه أولاً ولتعنته ثانياً، فعلى ماذا يراهن؟
ثانياً: اللعب بسلاح الوقت، فدائماً ما كان يحكى عن أن العدو الإسرائيلي لا يحتمل حرباً طويلة الأمد، القصة ليست مرتبطة بالقدرات العسكرية، نتحدث عن قوة الجبهة الداخلية التي تدعم تلك الحرب وهي في الحقيقة تبدو حالياً في الحضيض، واللافت أن نتنياهو نفسه هو الذي يدرك صعوبة كسب الوقت في حرب استنزاف كهذهِ، يبدو مصراً على اللعب بورقة الوقت، لكن هنا علينا الاعتراف بأن اللعب بهذهِ الورقة يبدو في مصلحته مالم تحدث تطورات تسبق الانتخابات الأميركية القادمة.
لكي تتضح الصورة أكثر تعالوا ندقق بما نقلته «يديعوت أحرونوت» عن مسؤولين في الوفد الصهيوني المفاوض بأن «الانتخابات الأميركية هي سبب إخفاق المفاوضات»، هذا يعني أن تعنت نتنياهو والمراوغة في قبول الصفقة رغم كل ما قدمته الإدارة الديمقراطية برئاسة الرئيس الأميركي جو بايدن لم تفِ بالغرض، لأنه مازال يرى العلاقة مع الإدارة الديمقراطية بفتور العلاقة مع الرئيس الأسبق باراك أوباما، فلم يعجبه مثلاً كلام المرشحة الديمقراطية كاميلا هاريس عندما تحدثت في مهرجانها الانتخابي الأخير عن خطة لإنهاء الحرب على غزة، ولم يعجبه طلب بايدن عن ضرورة ترك محور فيلادلفيا تحت الإدارة الفلسطينية، بل إن هناك في الإدارة الديمقراطية من رأى باقتراح نتنياهو بالحفاظ على كيلو متر واحد توجد فيه القوات الإسرائيلية إهانة للولايات المتحدة، لكنهم يدركون أن نتنياهو يتطلع من خلال عملية كسب الوقت لوصول المرشح دونالد ترامب ليتخلص من كامل الضغوطات ليصبح السؤال: ما الذي سيقدمه ترامب لنتنياهو لم تستطع الإدارة الديمقراطية تقديمه؟
هناك الكثير من الأحاديث من بينها موافقة ترامب على خطة ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء، أو عودة فكرة الأردن كوطن بديل، لكن الأهم هو تحديد شكل العلاقة بالتعاطي مع إيران، فبالنسبة لنتنياهو فإن ترامب لا يحتمل إيران إن كانت نووية ولا غير نووية، بل هو كان أحد القلائل الذين تجاوزوا الخطوط الحمر عندما أمر بقتل اللواء قاسم سليماني من دون أن يلقى الرد القاصم على هذا التجاوز الخطير، ما يعني أن الهجوم على المنشآت النووية بغطاء أميركي لن يكون مستبعداً، لكن السؤال الملح هنا قبل التفكير بما قد يفعله نتنياهو :هل هو قادر على إطالة أمد الحرب لخمسة أشهر موعد استلام ترامب لمنصبهِ في البيت الأبيض، هذا إن نجح أساساً؟
بالتأكيد تبدو الإجابة عن هذا السؤال مرتبطة بالفكرة الأساسية وهي صمود الجبهة الداخلية للكيان، ربما إن أجمل تفسير لوجود إسرائيل هو ذاك الذي يقدمها كمنتجع سياحي كبير للأثرياء اليهود في العالم، يتمتع بكامل الخدمات المطلوبة وقريب، حسب زعمهم، من الأماكن الروحية، هذا المنتجع كما كل المنتجعات في العالم بحاجة لبنى تحتية وأيد عاملة، وموارد لكي يستمر باستقطاب المقتدرين، والأهم من كل ذلك أنه بحاجة إلى الأمن والأمان كي لا يهجره هؤلاء وهم اليوم باتوا موزعين بين فرنسا الولايات المتحدة واليونان وحتى روسيا، وسيبقى للدفاع عنه أولئك الموجودون بوظيفة مجزية لا أكثر، تحديداً المرتزقة المنحدرين من جنسيات إفريقية، هذا الخلل الذي يراه البعض عادياً لكنه في الواقع وكمثال بسيط أخرج الكيان الصهيوني من قوائم المناطق الأكثر جذباً لرجال الأعمال!
قد يقول قائل إن التعويل على الخسائر المادية لدولة إسرائيل المباشرة قد لا يفي بالغرض ولن يكون له تأثيرات على المدى الطويل لما تتمتع به دولة الاحتلال من دعم الاقتصادات الكبرى، هذا الكلام سيكون منطقياً لو كانت المشكلة فقط اقتصادية لكننا نتحدث هنا عن مشاكل مركبة أربكت الجبهة الداخلية، وهو نادراً ما يحدث بل يجب النظر إليه بعين الاهتمام مع مراعاة أمر هام من باب الواقعية السياسية: جبهاتنا الداخلية كذلك الأمر ليست بأفضل حال!
كاتب سوري مقيم في فرنسا