واشنطن والمفاوضات جعجعة بلا طحن
| منذر عيد
تؤكد التجارب الاجتماعية أنه من المستحيل إيقاظ شخص يدعي أنه نائم، وفي السياسة يبدو من المستحيل على الولايات المتحدة الأميركية وباقي الدول المنخرطة في عملية التفاوض بين المقاومة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي من «إيقاظ» قادة الكيان وإقناعهم بالذهاب إلى توقيع الاتفاق وإعلان وقف العدوان على قطاع غزة والانسحاب منه، لأن رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو يدعي الحرص على إنجاز اتفاق وهو في حقيقة الأمر غير معني بذلك، بل إنه يدرك أن مصلحته بعدم حصول ذلك، وعليه فإن «إيقاظه» من حالة النوم المفترضة صعبة التحقق على الأميركي.
منذ بدء الدعوات الدولية لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، وانخراط الأميركي في مساع للوصول إلى ذلك، كان واضحاً للجميع أن أقوال الإدارة الأميركية تخالف أفعالها، ففي الوقت الذي طرح الرئيس الأميركي جو بايدن خطته في حزيران الماضي المكونة من 3 مراحل تشمل انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة وإطلاق سراح الرهائن وإعادة الإعمار، واصل بزخم أكبر تزويد قوات الاحتلال بآلاف الاطنان من الذخيرة والأسلحة لقتل الشعب الفلسطيني في غزة، بالتزامن مع قيام نتنياهو بتمييع ما طرحه بايدن وإدخال الكثير من الشروط والتعديلات أفقدت طرح واشنطن أي قيمة.
سمتان أساسيتان تميزان سياسة واشنطن في ملف التفاوض، الكذب وإشاعة حالة من الإيجابية بخلاف الواقع، والإصرار على إبقاء ذاك الملف مفتوحاً ولو بالحد الأدنى، وهو ما يعد محاولة لبث الروح في جثة هامدة، حيث إنه على الرغم من مغادرة الوفود التفاوضية القاهرة مساء الأحد الماضي، وإعلان مصدرين أمنيين مصريين، لوكالة «رويترز»، أن المفاوضين لم يتوصّلوا إلى أي اتفاق، وأن اقتراحات التسوية التي عرضها الوسطاء، رُفضت من جانبي التفاوض، الإسرائيلي والفلسطيني، أصر الجانب الأميركي على إبقاء فرق عمل تقنيّة ليوم إضافي، بحضور المبعوث الخاص للرئيس الأميركي بريت ماكغورك، بل اعتمد إستراتيجية تفاوضية جديدة، عنوانها محاولة التوصّل إلى كل الاتفاقات الممكنة بين إسرائيل وحركة المقاومة حماس، وتأجيل بحث القضايا الخلافية المعقّدة إلى مرحلة لاحقة، وهو ما يؤكد أن واشنطن تنقش سياساتها في هذا المجال على سطح الماء، وبأن أقولها باتت «ضجيجاً بلا طحن».
إن لم يقم نتنياهو بالإعلان بشكل صريح عن عدم رغبته بالتوصل إلى أي اتفاق، أو عدم إرسال وفد إلى المفاوضات، وذلك من باب المحاباة لواشنطن، فذلك لأن ما لم يقله صراحة وعلانية، قاله بشكل واضح وحازم، وأعلن ما هو سر في داخله من خلال ما سرب من كلام في أثناء لقائه عائلات الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية، إذ قال: «أريد أن أخبركم بما أنا مشغول به، أنا أتعامل مع خطر تدمير هذا البلد»، وعندما حاولت مستوطنة أطلق سراحها قبل فترة سؤاله عما إذا كانت «الحرب أكثر أهمية من الرهائن»، ردّ نتنياهو بعصبية: «يبدو أنّك لم تكوني تستمعين إليّ بعناية كافية». وتابع: «مستقبل دولة إسرائيل موضع شك، وجود الدولة برمته، ووجود المستوطنات في الجنوب والوسط والشمال في خطر، وكل شيء، كل شيء موضع شك».
ليس من الصعوبة، حتى لمن بدأ بالأمس تعلم أبجدية السياسة، أن يعي جيداً أن نتنياهو لا يريد وقف العدوان على القطاع، وأن جميع ما يقال حول حدوث خرق ما بشأن خفض تدريجي لقوات جيش الاحتلال الإسرائيلي في محور فيلادلفيا، ليس إلا من باب الكذب والمراوغة الأميركية التي تحدثنا عنها سابقاً، حيث نفى مكتب نتنياهو موافقة إسرائيل على خفض قواتها في محور فيلادلفيا، وأكد تمسك نتنياهو «بمبدأ بقاء إسرائيل فعلياً في محور فيلادلفيا، من معبر كرم أبو سالم إلى البحر».
للحظة قد يظن المتابع أن ثمة خلافاً بين الموقفين الأميركي والإسرائيلي حول المفاوضات، إلا أن المتعمق في علاقة الطرفين سرعان ما يدرك أن الموقفين متكاملان، إذ لا معنى للتفاؤل الأميركي مع استمرار الخلافات الجوهرية حول القضايا الأساسية، وهي وقف العدوان الانسحاب وإعادة الإعمار، وأن ما تقوم به واشنطن ليس إلا إشاعة للأوهام، وإفساح بالمجال لمضي فترة زمنية ما تخدم إدارتها سواء من جهة العلاقات مع الكيان ونتنياهو، أو من جهة منح الأخير الوقت الكافي لتحقيق ما عجز عن تحقيقه طوال عشرة أشهر في غزة، ليقينها أن استمرار القتل والتجويع سيؤدي في النتيجة إلى خضوع المقاومة، وتسليمها بالأمر الواقع، وهو إعلان إسرائيل «النصر»، ولمعرفة الإدارة الأميركية أن التوصل إلى اتفاق، سيكون بمنزلة الماء التي سوف تطفئ نار التوتر في المنطقة، وتحد من الخطر الذي يحيق بالكيان من قبل دول المقاومة.