وجه الأسطورة الحقيقي
| حسن م. يوسف
قبل نحو عامين نشرت هيئة الإذاعة البريطانيّة قائمة ضمت مئة من مشاهير البريطانيين وطلبت من جمهورها أن يختاروا الأفضل من بينهم. وبعد أن أدلى البريطانيون بأصواتهم عبر الهاتف والبريد الإلكتروني كانت نتيجة الاستفتاء أن أغلبيتهم اعتبروا ونستون تشرشل «أفضل بريطانيّ على الإطلاق»، يليه إسامبارد كينجدم برونيل الذي يعتبر أعظم شخصيات الثورة الصناعية، وأحد عمالقة الهندسة في القرن التاسع عشر، في حين حلت الأميرة ديانا في المرتبة الثالثة. وبعد هؤلاء الثلاثة حل عالم الطبيعة تشارلز داروين، ثم الكاتب وليام شكسبير وبعده عالم الفيزياء والرياضيات إسحق نيوتن ثم الملكة إليزابيث الأولى، فمغني البوب جون لينون!
صحيح أن قرابة عامين قد مرا على هذا الاستفتاء إلا أن أصداءه لا تزال تتفاعل داخل بريطانيا وخارجها، والحق أن أربعة أصدقاء من ثلاث قارات أرسلوا لي مقالات تتعلق بهذا الاستفتاء الذي يعيد تلميع رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل (1874- 1965).
لقد نجح الإعلام البريطاني في أسطرة شخصية تشرشل وتحويله إلى شبه قديس. وكانت هيئة الإذاعة البريطانيّة ولاتزال تمثل قلب الدفاع عن أسطورة تشرشل، ربما لأنه كان وراء قرار تحويلها إلى «ذراع دعاية للحكومة البريطانيّة» رغم أنها ممّولة من جيوب المواطنين بغرض تقديم إعلام غير منحاز.
لست أنكر أن تقديم تشرشل على شكسبير وداروين ونيوتن وأنجلز قد استفزني، إلا أنني غضضت النظر ولم أكتب عن الموضوع، فكل الأمم تبالغ في أسطرة أبطالها كما فعلت البي بي سي، إلا أن مواطناً بريطانياً من أصل باكستاني يدعى طارق علي أصدر مؤخراً كتاباً يشكل رداً مفحماً على استفتاء «البي بي سي»، عنوان الكتاب «وينستون تشرشل أزمنته وجرائمه».
لست أنكر أنني عندما قرأت العنوان ظننت أن هناك خطأ مطبعياً، إذ لم أتصور أن يجرؤ مواطن بريطاني على تأليف كتاب عن جرائم تشرشل الذي صنفه البريطانيون في استفتاء «البي بي سي» كـ «أفضل بريطانيّ على الإطلاق»!
يورد مؤلف الكتاب العديد من قرارات تشرشل الخاطئة، التي تسببت بمقتل كثيرين كمأساة غاليبولي عام 1915 التي ذهب ضحيتها خمسة آلاف جندي بريطاني من دون طائل بسبب عناد تشرشل وعدم انصياعه للعسكريين. والأهم مما سبق هو أن الدراسات الأكاديمية التي أجراها العلماء أثبتت أن مجاعة البنغال عام 1943 التي مات فيها نحو 3 ملايين هندي جوعاً، لم تكن نتيجة أسباب طبيعية؛ بل كانت نتاج سياسات رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، التي حظرت واردات الحبوب إلى الهند وأمرت بتصدير كل إنتاجها من المواد الغذائية إلى بريطانيا.
ما صدمني حقاً هو أن تشرشل كان يحلم بـ«تحسين النسل» سعياً لـ «وقف انحدار العرق البريطاني»! كما ذهلت عندما علمت أنه رحّب بصعود بينيتو موسوليني وأدولف هتلر، في إيطاليا وألمانيا إلى السلطة «كأفضل سلاح لمحاربة انتشار الشيوعيّة السوفييتيّة»! ولم ينقلب عليهما إلا عقب انكشاف طموحاتهما التوسعيّة! ويبدو أن هذه المعلومات مؤكدة، إذ ثمة تسجيل لخطاب ألقاه تشرشل أمام منتسبي الحزب الفاشيّ بروما عام 1927، يقول فيه: «لو كنت إيطالياً، لانضممت إلى صفوفكم من البداية إلى النهاية ولشاركتُ في مسيرتكم المظفّرة للقضاء على أحلام الشيوعيّة»!
لذلك رأيت أنه من الطبيعي أن يدعم تشرشل الحركة الصهيونيّة لأنها برأيه «خير سمّ للقضاء على الشيوعيّة، وأداة عبقريّة لجمع يهود العالم تحت راية الإمبراطوريّة، بعيداً هناك في فلسطين. »
كان تشرشل يقول: «أنا لا أصدق إلا الاستفتاءات التي زوّرتُها بنفسي!» والحق أن هذا الكلام ينطبق على استفتاء البي بي سي أيضاً، لأن ما يتمخض عن وعي مزور، يكون مزوراً.