«مفكرون» جونسون يفضح التغييريين وممارساتهم المتناقضة … أصابهم نوع من سن اليأس الدماغي الموحش الذي يمكن تسميته هروب العقل
| إسماعيل مروة
سؤال مطروح دوماً وهو مشروع: هل يشترط أن تتطابق آراء الإنسان، أي إنسان، مع حياته وتعاملاته؟ ويتبعه سؤال: إذا لم تتطابق هل يؤخذ رأيه؟ الجبان الخائف هل يحق له أن يتحدث عن الشجاعة والإقدام؟ البخيل المقتر هل يجوز أن يتحدث عن الكرم والكرماء؟ الجاهل لأنواع الثقافة هل يحق له أن يتحدث في الثقافة والإبداع، وأن يقيم المثقفين؟
ثمة فرق لابد من الوقوف عنده، وهو التفريق بين المؤثّرين وأصحاب القرار، أو ما يطلق عليهم لقب (التغييريون) وبين عامة الناس، فالجاهل العادي لا أثر له إن لم يكن متحكماً في مفاصل الثقافة! وصاحب الحياة المرذولة له حياته إن لم يكن داعية إسلامياً أو مسيحياً أو من أي شريعة! والجبان العادي يختبئ وأمره لنفسه إن لم يكن قائداً.. فكرة التطابق بين الشخص وآرائه وحياته قد يشعر بها الناس، وقد لا يشعرون تبعاً لمكانته، وهذا ما يدور حوله الكتاب المتميز (مفكرون) لبول جونسون، وقد نقله عن الإنكليزية د. نايف الياسين، ويتناول أهم مفكري العالم التغييريين والتناقض الصارخ بين الحياة التي يعيشونها، والآراء التي بثّوها في العالم، وربما ورّطوا الآخرين، ومنهم جونسون قبل أن ينتقل من اليسار إلى اليمين!
تعميم ما لا يمكن
قدّم المترجم الدكتور الياسين لكتابه بمقدمة ضرورية وشاملة تعتمد التمثيل والبيان حول هذه الفكرة المعقدة بحق، فهل يجوز لواحد يفعل أمراً غير مقبول مجتمعياً أن يدافع عنه، بل أن يطالب بأن يصبح مسموحاً وسائداً؟ لينطلق بعد ذلك لبيان فكرة المؤلف وتوسيع الدائرة إلى الفكر الذي هو أبعد وأخطر من الممارسة.
«الجدل حول فوكو، وهو أحد أبرز مفكري القرن العشرين يتعلق بإمكانية الفصل بين أفكار مفكر ما وطروحاته ونظرياته وممارساته في حياته اليومية.. فالبعض يعتقد أن جمهور المتلقين، القراء في حالتنا هذه، تعنيهم أفكار الشخص وكتاباته، ولا شأن لهم بحياته وسلوكه الشخصيين، وفريق آخر يقول إنه في حال التباين بين فكر الشخص وسلوكه فإن ذلك يعني وجود خلل ما إما في الفكر وإما في السلوك».
ولأن مثال فوكو يمثل جانباً ذاتياً وأخلاقياً، يرى المترجم مع المؤلف أن الأمر أكثر تعقيداً مع نوعية من المفكرين الذين يسعون إلى تغيير العالم، وليس الاكتفاء بجانب شخصي يعاني منه واحدهم أو يعيشه، وينقل المترجم عن المؤلف ليضع القارئ في جو الكتاب الصادم «إن المفكرين اضطلعوا، منذ عصر التنوير، بدور الأنبياء وقادة المجتمعات، وبالنظر إلى أن مرجعية هؤلاء ليست إلهية ولا غيبية ولا روحانية، بل تكمن في قوة أفكارهم وحسب، فإنه يبحث في مؤهلاتهم الأخلاقية والسلوكية للقيام بهذا الدور، ويلفت إلى التناقض الصارخ أحياناً بين ما يقوله هؤلاء وما يعقلونه، بين أفكارهم ومثلهم من جهة، وسلوكهم في حياتهم الخاصة وعلاقاتهم بالمحيطين بهم من جهة أخرى».
فالأمر عند جونسون يتجاوز فكرة التناقض الخاص في الحياة، ليتجاوز إلى الدور الذي لبسه هذا المفكر أو سواه من أجل أن يكون قوة تغييرية في العالم، إذ لبس هؤلاء لباس الأنبياء، ومسوح القادة، وإن لم تكن المهام التي حملوها روحانية أو إلهية المصدر.
قلبوا موازين العالم فماذا عنهم؟
جان جاك روسو، شيلي، كارل ماركس، هنريك إبسن، تولستوي، همنغواي، بريخت، رسل، سارتر، إدموند ويلسون.. هذه الشخصيات التي تناولها جونسون في كتابٍ، إضافة إلى شخصيات ليست معروفة في ثقافتنا، ارتأى المترجم حذفها بتمامها، ولو أمعنا النظر في هذه الشخصيات نعرف من دون بذل جهد أنها قلبت الموازين في الحياة، وكل شخصية في اختصاصها، روسو في الفلسفة والمنطق، شيلي في الشعر ووظيفته، كارل ماركس في الاقتصاد والسياسة، إبسن في مسرحه، تولتسوي في رواياته وحياته في زمنه، همنغواي في الرواية والحياة، بريخت في مسرحه وتحديثه ودورانه في المعقول، راسل في فلسفته وإلحاده وكل ما كتبه، سارتر في فلسفته ووجوديته واشتراكيته الملبسة، ويلسون وارتباطه بالموروث.. شخصيات تركت أثرها في الفكر الإنساني والنقدي والأدبي، ويجدر أن نشير إلى علاقتهم الوثيقة بالحداثة، وارتباط حركات الحداثة بالسياسة والنظم العالمية، إذ لم يكن روسو مجرد فيلسوف، ومن النقاد من يرى أنه في أفكاره من آباء الثورة الفرنسية، وماركس والاشتراكية الاقتصادية، وقد تحولت إلى تيار سياسي حمل اسمه، وصولاً إلى سارتر ووجوديته التي ارتبطت به ارتباطاً وثيقاً لأنه وضع أسسها، مع أنها فكرة فطرية ولدت مع البشرية، من هنا تأتي أهمية هذه الشخصيات التي توصف بالتغييرية التي لا يخفى ما أحدثته من انقلابات فكرية في سيرورة حياة البشرية جمعاء، ولم يتوقف تأثيرها عند الأفراد العاديين والقلائل، من المفترض أن يمشي التغييري وفق رؤاه ليكون نموذجاً، فهل كانوا صورة لأفكارهم؟ المترجم بمعرفته يضعنا أمام إحاطة بسيطة تتعلق بالمؤلف الذي تحول من اليسار إلى اليمين، ولكن هذه الإحاطة تتطلب منا الحذر ودراسة الآراء لا غير للوصول إلى المنطقية، وإبعاد ما يمكن أن يكون بالرؤية الإيديولوجية المعادية.
صورهم وأفكارهم وآثارهم
«يجد المؤلف سمة مشتركة تقريباً بين جميع هؤلاء المفكرين تتمثل في أنهم يعبّرون عن محبة طاغية للبشرية جمعاء، كمفهوم مجرد، ويقدمون أفكاراً يعتقدون أن من شأنها إصلاح شأن البشرية وإسعادها، لكن حين يتعلق الأمر بالبشر الحقيقيين في حياتهم، فإن المسألة تختلف كثيراً».
فالصورة تختلف بين الفكر المجرد والتطبيق الشخصي الخاص، بين التنظير والحياة، بين الإعلان والممارسة التي قد لا يعرفها الآخرون.
1- جان جاك روسو في فكره «لقد كان رجلاً ولد ليحب، وعلّم عقيدة الحب بشكل أكثر إصراراً وثباتاً من معظم رجال الدين وفي الممارسة «لم يكن والده يعني له شيئاً، واستصدر وثيقة بموت شقيقه المفقود لتعود أموال العائلة له وحده، كان ينظر إلى أسرته من منظور المال.. عامل المرأة التي أصبحت فعلياً أمه بالتبني مدام دوفاران بدناءة، كانت قد أنقذته من الفقر المدقع، لكن حين ازدهرت أوضاعه وأصبحت هي فقيرة، لم يقدم لها شيئاً.. رفض أن يرسل المزيد لأن المال سيأخذه الأنذال المحيطون بها، ولم يرد على توسلاتها اللاحقة طلباً للمساعدة».
«ولد طفله الأول من تيريز في شتاء 1747، ولا نعرف جنس الطفل، ولم يطلق عليه الاسم، وأقنع تيريز بصعوبة بالغة بأنه يجب أن تتخلى عن الطفل حفاظاً على شرفها.. وتم التخلي عن أربعة أطفال رضّع أنجبتهم تيريز بالطريقة نفسها، لم يكترث روسو حتى لتدوين تاريخ ميلاد أطفاله الخمسة، ولم يهتم بما حدث لهم على الإطلاق»!
وبعد استعراض آرائه السياسية الاستبدادية يخلص المؤلف: «سذاجة البشر، وميل البشر لرفض الأدلة التي لا يرغبون في الاعتراف بها، واعتمدوا على ادعاء روسو بأنه أكثر رجال عصره فضيلة».
2- شيلي بين الأسرة وتمزيقها والميول الخاصة من خلال الجماعات التي انتمى إليها شيلي رجل الحقيقة والفضيلة صار متهماً بأمر سداد ديونه ومحتالاً طوال حياته، كان يقترض المال في كل مكان، ومن جميع أنواع الناس، ومعظمهم لم يستردوا «أموالهم».
3- كارل ماركس «على حد علمنا فإن ماركس لم تطأ قدمه أرض محلج، أو معمل، أو منجم أو أي مكان عمل صناعي طوال حياته «الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو عداء ماركس للثوريين الآخرين الذين كانوا خبراء في تلك الأمور.. كان لا يقتبس أمثلة، أو يستنتج حقائق تتعارض مع نظريته.. من تقارير تفتيش المعامل، يقتبس ماركس أمثلة على الظروف السيئة وسوء معاملة العمال، اللهجة الكامنة للعنف موجودة دائماً في الماركسية.
4- إبسن.. المحرر العظيم الذي نفذ إلى أعماق البشرية، وبكى من أجلها والذي علمتها أعماله كيف تحرر نفسها من قيود التقاليد والتحامل المتعجرف، لماذا بدا كأنه يصدّ وينفر البشر كأفراد؟ لماذا كان دائماً وحده؟
ما سبب العزلة الرهيبة التي فرضها على نفسه؟
5- تولستوي كان هدفه جعل المملكة الروحية للمسيح مملكة على هذه الأرض، باع من أرضه لسداد ديون القمار، جعل من نفسه كاتباً إعجازياً بالقوة، كان تولستوي في الريف، ولاسيما في عزبته تعوّد اختيار الفتيات الأقنان الأجمل، آمن بالأسرة ولم يؤمن حقيقة بالزواج، الأكثر خطورة كان رأي تولستوي السلطوي بأنه هو وحده يملك الحل لمشكلات العالم.
6- همنغواي، رفض دين والديه بكليته، ومعه أي رغبة بأن يكون ذلك النوع من الأبناء الذي أرادوه، كان يؤمن بأنه ورث عالماً زائفاً، وكانت أخلاقياته تتعلق فعلاً بولاءاته الشخصية، كان أطفال همنغواي من زيجاته شهوداً صامتين، لم يعان من جفاف روحي، بل كان مدمناً، كان رجلاً قتله فنه، وتقدم حياته درساً: الفن وحده لا يكفي.
7- بريخت لم ينكر الدين وحسب، بل إنه قام علناً بإحراق الإنجيل، قرأ رأس المال، وتمكن من ادعاء الفضل بمهارته الكبيرة في العلاقات العامة، عمل على أنه نجم الحزب الشيوعي، سعى لتحقيق أهدافه الذاتية بدم بارد، كان لا قلب له، لا ينزعج من المعاناة التي يسببها للنساء، كان لا بأس من استعمالهن والتخلي عنهن، كان كماركس بحاجة دائماً لاستغلال الناس، تماهيه مع العمال كان دجلاً، وابتعد عن حياة الناس العاديين، وفضّل الأفكار على الناس.
8- رسل، ما من مفكر في التاريخ قدم نصائح للبشرية على مدى فترة طويلة جداً من الزمن مثل رسل، يعتقد أن العامة ينبغي أن تشجع على اختراق المعرفة، إذا سلمنا بفرضيات رسل، كان هناك منطق في اتهاماته، لكن حتى المنطق طبق بشكل انتقائي، اكتسب سمعة أسوأ بسبب آرائه بشأن مواضيع لها علاقة بالحرب، سلوكه الفعلي مع النساء لم يكن يتطابق دائماً مع مبادئه النظرية.
9- سارتر، كان سارتر محباً ومفخماً لذاته بدرجة مفرطة، لم يكن يقر بكثير من الاحترام للحقيقة، جوهر عمله أن يعكس النشاط الفلسفي في الرواية والمسرح، بطريقة غامضة، كان سارتر يتوق إلى المشاركة في المقاومة، لم يفعل شيئاً ذا قيمة للمقاومة، كيف رسخ سارتر هيمنته على دي بوفوار، لم يكمن تحالفه مع الشيوعيين منطقياً، فشل في تحقيق أي نوع من التماسك والثبات في آرائه.
10- إدموند ويلسون كان يعي جيداً أنه وأصدقاءه قد ينظر إليهم على أنهم من خارج الطبقة العالمة، إلا أنه بذل جهداً جدياً للاطلاع على الظروف الاجتماعية، كان يفتقر إلى تجاهل الحقيقة وتفضيل الأفكار على الناس.
11- هروب العقل، وفي هذا الفصل يقف جونسون وقفة سريعة مع جورج أورويل ونورمان ميلر وجيمس بالدوين ونعوم تشومسكي وبين الاشتراكية والرأسمالية، النظريات والواقع، العنف والسلمن يلخص جونسون ما يريده بعبارتين.
– خاصية مثل هؤلاء المفكرين الذين لا يرون غضاضة في الانتقال من اختصاصهم إذ يُعترف بأنهم حجج فيه، إلى الشؤون العامة، حيث قد يفترض بأنهم لا يتمتعون بحق أن يصغى غليهم أكثر مما يصغى لأي شخص آخر.
– يبدو في حياة المفكرين الألفيين نوع من سن اليأس الدماغي الموحش، الذي يمكن تسميته هروب العقل.
كتاب فكري مهم للغاية، ومن الصعب عرضه والإفادة منه دون أن نقف عند نقاط توضح الأسلوب والمنهج، وتشكل مفاتيح للعودة إلى الكتاب، ولعل أهم ما أراده المؤلف هو بيان ذلك التناقض الصارخ بين أفكار المفكرين الذين كانوا تغييريين وانقلابيين على مستوى البشرية في القرون الأخيرة، وبين ممارساتهم الشخصية التي تتنافى مع المنطق، فأول من يعتنق الآراء مبدعوها، وإلا كانت لا قيمة لها.. وللحق فإن القارئ، والمطلع من القراء سيقف عند قضايا صادمة في هذا الكتاب تدعوه للقراءة وإعادة القراءة للوصول إلى الحقيقة.