قضايا وآراء

دمشق.. محاولة لتفعيل «الضلع الرابع» من جديد

| عبد المنعم علي عيسى

قد تحمل المقاربة الجديدة لملف العلاقة السورية- التركية تطوراً من شأنه أن يزيل كبرى العقبات التي حالت من دون وصول هذه الأخيرة إلى خواتيمها الممكنة بعد عداء دام لنحو ثلاثة عشر عاماً مارست أنقرة في نصفها الأول جهوداً كبرى لتغيير الوضع القائم في سورية، أما في نصفها الثاني فكانت في وضعية هي أقرب لمن يريد تجميع الأوراق ضماناً لدور ما، أو تأميناً لمصالح عدة، عندما تحين لحظة التسوية التي قد يطول وقتها وفقاً لـ«النبوءة» التي قال بها السفير الأميركي الأخير بدمشق روبرت فورد في مقابلة نشرتها مواقع عدة قبل أيام.

في خطابه أمام مجلس الشعب، يوم الأحد قبل الماضي، قال الرئيس بشار الأسد: إن دمشق لم تضع موضوع الانسحاب التركي من الأراضي السورية شرطاً مسبقاً للحوار مع تركيا، وذهب نحو توصيف الأمر بقوله: «هذا الكلام بعيد كل البعد عن الواقع»، وفي مقاربة ذلك يمكن ترجيح أن دمشق قد غيرت من مقاربتها السابقة، وهي ترى أن من الممكن راهناً القبول بتعهد تركي بالانسحاب وفق خريطة زمنية محددة، وإذا ما كان الأمر كذلك فمن الجائز القول إن لقاء محتملاً بين الرئيسين السوري والتركي بات أقرب من أي وقت مضى، فعقدة الوجود العسكري التركي كانت، ولا تزال، هي العقبة الكبرى من بين رزمة العقد التي تعترض طريق أنقرة الموصلة إلى دمشق، والشاهد هو أن الرئيس الأسد كان قد مضى في سياق خطابه آنف الذكر نحو رسم «خريطة طريق» من المنظور السوري للتقارب الحاصل بقوله: «إنه من المهم أن تكون لدينا خطوات واضحة، ونعرف كيفية السير في اتجاه هذه الأهداف، ومهما كانت الخطوات المقبلة فسيكون أساسها السيادة، وحدودها السيادة، ومعيارها السيادة»، الأمر الذي تقره مواثيق الأمم المتحدة، وكل القرارات ذات الاختصاص الصادرة عنها، وكذا تلك التي صدرت عن مؤتمرات ولقاءات على اختلاف مشاربها، بل حتى الصادرة عن المسؤولين الأتراك كانت تقر بذلك أقله في المعلن، وكل ذلك من شأنه أن يكون داعماً للخريطة التي أعلنها الرئيس الأسد، وعامل إسناد لها.

لكن هذا لا يعني أن الطرقات باتت سالكة تماماً، فقطيعة دامت لثلاث عشرة سنة كانت قد تركت الكثير من «العشب» على جانبي الطريق مما لا يستهان به، ولربما تكاثفه كفيل بإعاقة حركة العجلات، خصوصاً أن حساسية اللحظة تفترض أن لا بديل لكلا الطرفين من إظهار حسن نياته، وذاك فعل لا يصح القيام به عبر التصريحات أو ما شابه، بل بسلوك وممارسات دالة عليها، ولربما كان التحدي الأكبر الآن، الماثل أمام أنقرة في هذا السياق الأخير، هو قدرتها، من عدمها، على ضبط الفصائل الموالية لها وإعادة فتح منفذ «أبو الزندين» تنفيذاً لاتفاقات سابقة كانت قد وقعت ما بين الأتراك والروس، وعدم القيام بالفعل يعني شيئاً واحداً هو أن أنقرة لا تزال تماطل لسبب هنا أو لآخر هناك، ومن غير الممكن تخيل أن أنقرة عاجزة عن ضبط تلك الفصائل تحت أي ظرف من الظروف.

في معايرة المقاربة السورية الجديدة لا بديل عن القول إن الاستقرار السوري الحاصل ما قبل آذار 2011 كان يستند في عمقه على منظومة علاقات ترسم شكلاً هندسياً خماسي الأضلاع، موسكو – واشنطن – طهران – الرياض – أنقرة، والعلاقة التي كانت تصل دمشق بتلك الخماسية كانت قد استطاعت إبقاء هذه الأخيرة خارج «دائرة الخطر»، وما جرى بعد هذا التاريخ الأخير، أقله في المديات التي وصل إليها، كان نتيجة لاختلال أوضاع ذلك «المخمس»، وسرعان ما تكشف، بعد أشهر من الاحتجاجات، أن أضلعاً ثلاثة من هذا الأخير قد انكسرت أو هي أصيبت بالعطب، ما يفسر، وإلى حد بعيد، وصول النار السورية إلى ما وصلت إليه.

في غضون العامين الفائتين جرى تثليث الضلعين الروسي والإيراني بعد عودة «الضلع السعودي» للعمل من جديد، وفي الغضون بقي الضلع الرابع، التركي، بين أخذ ورد حيال التحاقه بنظيره السعودي، ولربما كانت هناك الكثير من المحاذير التي تستند إليها دمشق قبيل أن تقرر «تحفيز» ذلك الضلع على عملية الالتحاق آنفة الذكر، لكن مراجعة متأنية تقول إن المكاسب المتأتية من عودة «الضلع الرابع» هي أكبر بكثير من بقائه بعيداً عن «المثلث» الحالي، لاعتبارات عدة أبرزها أن أنقرة يمكن أن تلعب، بحقائق الجغرافيا، دور «الشريان» للاقتصاد السوري الذي تصدأت مفاصله بدرجة مثيرة للقلق، بل إن تلك العودة المفترضة يمكن لها أن تمهد الطريق لعودة، مفترضة أيضاً، لوضعية «الخماسية» الضامنة للاستقرار سابقة الذكر، خصوصاً أن واشنطن كانت قد أصدرت بعض الإشارات التي توحي بتغيير حاصل على النظرة الأميركية حيال الأزمة السورية وسبل تسويتها، من نوع قيام البيت الأبيض، أواخر شهر نيسان المنصرم، بسحب مسودة «قانون مكافحة التطبيع مع الحكومة السورية» من التداول، ومن نوع التصريحات الأخيرة التي أدلى بها السفير الأميركي السابق بدمشق روبرت فورد، والتي قال فيها: إنه يعتقد بأن بلاده «لن تلعب دوراً أكبر في مستقبل سورية»، قبيل أن يضيف: إن «روسيا هي الدولة الحيوية للعملية السياسية السورية في المستقبل»، ومن المؤكد أن فورد كان في وضعية «الموحى إليه» ليقول ما قاله.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن