ثقافة وفن

اختيارات ابن مسافر من شروح أشعار العرب كنز تراثي … أربعة وتسعون وثلاثمئة وألف بيت من الجاهلية إلى العباسي بنفائس الشروح

| إسماعيل مروة

تعدّ كتب الاختيارات الشعرية في التراث العربي من أهم المصنفات منذ العصور الأولى، وذلك لأسباب عديدة، فصّل الباحثون والدارسون فيها، ولم يمرّ عصر من العصور دون وجود عدد من كتب الاختيارات تسم العصر بسمتها، ولكن هذه الكتب تعود دوماً إلى منهج الاختيارات الأولى التي بدأت من الأصمعيات والمفضليات، ومن بعد إلى الحماسات وما تلاها، بل إن التداخل في الاختيارات من العصور الأولى يدل دلالة قاطعة على اتفاق الرأي النقدي عند النقاد، ووحدة المعايير النقدية، اليوم يصدر كتاب (اختيارات ابن مسافر، من شروح أشعار العرب) بتحقيق الدكتورين محمد شفيق البيطار ومقبل الأحمدي عن مركز أبو ظبي للغة العربية وهو من علماء القرن السابع الهجري (610- 656 هـ).

ماذا قدّم ابن مسافر؟

يقول محققا الكتاب (اشتمل هذا المجموع الغني الماتع من «اختيارات ابن مسافر» على ثماني عشرة قصيدة مشروحة، ومعظم الشروح مأخوذ من أصول نفيسة لم ينصّ المؤلف عليها ولا على أصحابها إلا شرح ميمية حُميد وأنه للأصمعي.. مجموع ما فيها من الأبيات أربعة وتسعون وثلاثمئة وألف بيت، تنهض بديوان مستقل، وتعود لأربعة عشر شاعراً: ستة منهم جاهليون، لهم تسع قصائد في ثلاثة وثمانين وثلاثمئة بيت، وأربعة مخضرمون لهم خمس قصائد في سبعة وستين وأربعمئة بيت، وثلاثة أمويون لهم ثلاث قصائد في ثلاثة عشر وثلاثمئة بيت، وعباسي واحد له قصيدة واحدة في واحد وثلاثين ومئتي بيت.. وفي هذا التقديم التقويمي يبين المحققان محتوى هذه المختارات، فهي ليست كالمختارات السابقة، وإنما تختلف عنها، وإن كانت تنهل منها، وذلك في أمور عدة:

– تعدد العصور من الجاهلي إلى العباسي.

– الاختيار والشرح للقصائد المختارة.

– الاختيار التام للقصائد التي اختارها ابن مسافر.

وهو بذلك يتابع منهج المختارات الشعرية القديمة، وفي منهج معدّل، ليحفظ لنا الشعر والشرح في الوقت نفسه.

الشعراء الذين اختار لهم

من الجاهلية اختار ابن مسافر للشعراء: الأفوه الأودي وللشنفرى الأزدي، وحاتم الطائي، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، والأعشى.. ومن المخضرمين فاختار لكعب بن زهير بن أبي سلمى، والشماخ بن ضرار الذبياني، ولأبي زبيد الطائي، وحميد بن ثور.

واختار من الأمويين لرؤبة بن العجاج وذي الرمة العدوي، ودوقلة المنبجي، واختار من العباسي لابن دريد الأزدي.

ولو رجعنا إلى المفضليات والأصمعيات، وعلى الرغم من أن ابن مسافر أخذ عن السابقين ومنهم الأصمعي، إلا أننا نجد الاختيارات السابقة تقوم على الاستيعاب، وعدد الشعراء الذين اختار لهم الأصمعي أو المفضل كبير، ويقوم على الشعر لا الشرح، بينما ابن مسافر يقوم على اختيار الاختيار، لذلك قدّم عيوناً ومختارات وشروحاً، ومن هنا تأتي أهمية ابن مسافر واختياراته ومشروحه، ويبرز فضل إخراج هذا الكتاب بعد جهد كبير، فهو لم يضمن اختياراته الكتب القديمة المتداولة والمعروفة، ولم يلجأ إلى الشعراء المشاهير وحدهم، وقد اختار للمشاهير أيضاً، إذ تغيب أسماء مهمة عن هذه الاختيارات لاعتبارات وضعها في الانتقاء أو الشروح.

أهمية كتب الشروح

من يعد إلى الدواوين والكتب القديمة المجموعة يلمس الأهمية الكبرى لكتب الأصمعيات والمفضليات واختيارات الأخفش وسواها، فعند جمع دواوين الشعراء الذين ضاعت أشعارهم في صفحات التاريخ نتيجة الإهمال أو الإحراق أو غير ذلك، فإن جامع الأشعار في تخريجها يمكن أن يعثر على ضالته في هذه الكتب، فيأخذ عنها قصيدة كاملة لم يجدها في سواها، أو يعثر على أبيات، أو يصحح رواية وصلت عن طريق أخرى، وخاصة أن الذين قاموا على هذه الكتب وتأليفها هم من العلماء الذين يوثق بروايتهم، وهل مثل الأصمعي؟ فقد شكّلت هذه الكتب، ومنها اختيارات ابن مسافر:

– مصدراً للأشعار القديمة.

– حافظاً للأشعار من الضياع.

– حكماً للعلماء الموثوق بهم.

– موسوعة أدبية وشعرية.

– توثيقاً للشعراء والأشعار.

وبعض هذه الاختيارات مهما كان مستوى صاحبها، قد تكون مجالس تدريس وغير ذلك، فقدمت لنا المنهج التدريسي في ذلك الزمن، وآليات النقاش والعمل والإلقاء، كما قدمت لنا نصوصاً أدبية تنتقل من جيل إلى جيل، سواء أشار المؤلف إلى مصادره أم لم يشر.

خصوصية ابن مسافر

من العنوان حمل الكتاب اسم (اختيارات ابن مسافر من شروح أشعار العرب) وهو بذلك وضع حدّين: الاختيار والشرح، ويتميز عن الكتب الأخرى التي كانت اختيارات، فجمعت الأشعار ووثقتها، فهو اختار شرحاً من الشروح ذات القيمة، وعرضها في اختياراته، وفي ذلك يقدم منهجه في الاختيار والشرح، ومن هنا جاءت نسبة الأشعار القليلة، لأن الاختيار مشفوع بالشرح في المتن، وإلى ذلك يشير المحققان في نظرة ناقدة إلى منهج المؤلف وإغفاله لمصادر عمداً أو من دون عمد، وفي تقويم لقيمة البحث العلمية، التي ارتقت من خلال جهدهما بمحاولة إعادة الشروح إلى أصحابها وإسباغ القيمة التاريخية والفكرية عليها، إضافة للبعد النقدي حين يتأكد القارئ أن الشارح من كبار العلماء العرب «ومعظم الشروح مأخوذ من أصول نفيسة لم ينصّ المؤلف عليها ولا على أصحابها إلا شرح ميمية حُميد وأنه للأصمعي، وقد فصلنا الحديث عن أصحاب الشروح بحسب ما استنتجنا ذلك منهم إلى جانب الأصمعي: أبو نصر راوية علم الأصمعي وأبو فيد مؤرّج بن عمرو السدوسي والطوسي والأخفش وأبو سعيد السكري وأبو العباس ثعلب والنحاس وأبو العلاء المعري والجواليقي والتبريزي»، من خلال هذا الكلام للمحققين فإننا نعلم أنهما عادا إلى كتب التراث السابقة، والمؤلف من المتأخرين في القرن السابع، وعقدا مقارنات نصية مع تلك الشروح، واستعراض الأسماء التي توثّقا من أنه أخذ عنها يظهر تلك القيمة للشروح، فقد أخذ عن علماء كبار على اختلاف السنوات، وربما لو عدنا إلى المصادر لا نجد هذه الشروح مجموعة أو مرتبة كما فعل ابن مسافر، وحسبنا أن يكون بين الذين أخذ شروحهم الأصمعي وثعلب السكري والمعري.

البيئة التاريخية والاجتماعية

يشوب العصر الذي عاشه ابن مسافر الكثير من اللغط والأحداث، والمكان الذي عاش فيه كان عرضة للأفكار الاجتماعية التي سببت الإشكالات والأحداث الداخلية عدا وجود الأخطار الخارجية التي قضى فيها ابن مسافر كما يذكر مترجموه، ورجح ذلك المحققان، وقد عرض المحققان لهذه البيئة بكثير من الإنصاف والاختصار، وبيّنا أن بعض الأتباع والمريدين يمكن أن يسبغوا على أساتذتهم وأشياخهم من الصفات التي ليست فيهم.. وقد حدث هذا اللبس مع المصنف ابن مسافر الحفيد والابن لمشايخ طريقة من الطرق الإسلامية في زمانهما، وربما أرخى هذا الأمر ظلاله على المصنف نفسه، لكن الذين ترجموا له بيّنوا أنه كان رجلاً أديباً مصنفاً لا علاقة له بأي مسار من الطرق الدينية، واختياراته تدل على ذلك من اختياره لدالية النابغة الذبياني إلى يتيمة دوقلة المنبجي، وربما هذا ما دفع المحققين إلى إثبات ذلك في اسمه ونسبه على الصفحة الأولى والغلاف (الشامي الأموي) في إشارة إلى انتمائه وميوله، وهو في عصر متأخر وقد اختار لشعراء عباسيين فخرجا من الأخبار المختلطة والمتداخلة التي أثرت فيه وفي الحديث عنه وعن أسرته، وتركت ظلالها حتى في تحديد سنة ولادته ووفاته، ومن المعروف أن بعض الشخصيات الإشكالية أو التي تحيا في بيئة إشكالية ينالها ما ينال بيئتها ومجتمعها، فنقلا عن مصدر علمي موثوق: «ومن أولاد الشيخ حسن ابن أبي المفاخر عدي تقي الدين عمر كان أديباً له مجموعة أدبية جمع فيها مختارات أدبية قديمة، وهي من المجاميع الأدبية النافعة، وليس فيها شيء من الغلو الذي أدخله والده الشيخ حسن.. أقرب الناس إليه ولده لم يسلك طريقته، بل كان ميالاً إلى العلم والأدب».

وفي تحديد سنة ولادته وسنة وفاته يقولان: «صاحبنا عمر كان الثاني وولد بعد عامين، فإن كانت ولادته كانت عام 610 هـ إن لم تكن بعد ذلك.. أما وفاته فكانت بعد أن بلغ سناً مكنته من طلب العلم والاختيار والتأليف.. نظن أن وفاته كانت بعد سنة 640 هـ، وربما كان ممن قتل حين دخل المغول العراق وسقطت بأيديهم بغداد عام 656هـ..».

المصنف ابن مسافر عاش حياة مضطربة وقصيرة، وهو في أحسن الأحوال لم يتجاوز الخمسينيات من العمر، وربما كان هذا وراء غياب ترجمة وافية له، ولا يعرف له من المصنفات سوى هذه الاختيارات، لذلك يقول مترجمه (وله مجموعة أدبية جمع فيها مختارات أدبية قديمة) فلم يسعفه العمر، وغزو المغول لبغداد ومن ثم وصولهم إلى حلب في أن يتابع رحلته العلمية.

ويذكر للمحققين الفاضلين د. البيطار ود الأحمدي تتبع هذا المخطوط في رحلة بحث طويلة استمرت عقوداً حتى وصلا إلى النسختين الشامية والعراقية، وأخرجا كنزاً مهماً قال عنه د. علي بن تميم مدير المركز «تم تخصيص جزء من المنح لمشروعات تحقيق ذخائر التراث العربي، إيماناً بقيمة هذا التراث وأحقيته في أن يكون جزءاً من المعرفة المعاصرة».

اختيارات ابن مسافر رافد تراثي مهم أخرج بطريقة علمية لائقة، ليقدم صورة معاصرة عن التراث وأعلامه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن