عندما يكون النحت رسماً للحجم بالضوء والظلّ … عانا لـ«الوطن»: النحت هو التعب الممتع الذي فرض نفسه عليَّ
| مايا حمادة
يرى الفنان «غازي عانا» النحت رسماً للحجم بالضوءٌ وظلّه، إيقاعاً، موسيقى ورقصاً، حيث أصبحت كل هذه القيم مجتمعة تنتهي إلى تلك الفرجة أو لحظة مشاهدة المنحوتة التي تمتع البصر وتـُسْكِنُ البصيرة، من جهة جمالية وتناغم الكتلة مع فراغها الداخلي بحيوية التفافها على بعضها، وانسجامها مع المحيط بمغناها ومعناها، لفضاءٍ كبيرٍ يفيض بالحب.
النحت فرض نفسه
يقول الفنان «غازي عانا»: إن البدايات الواضحة لتجربته الفنية الواعية كانت بداية التسعينيات أي بعد نحو عشر سنوات من تخرّجه في كلية الفنون الجميلة بدمشق 1980 ويتابع قائلاً: «بدأت بالعمل الوظيفي قبل تخرّجي في الجامعة لتدبير متطلبات الاستقرار بدمشق ونحن أبناء المحافظات، فلم يتوافر وجود مكان أو فضاء خاص للعمل بالنحت وهذه عقبة مازالت وستبقى تواجه معظم خريجي قسم النحت إلى اليوم، أما عن «بداية حكاية» فهو أول الأعمال كانت على مادة الخشب وبأدوات بدائية وما توفّر لدي منها في وقتها، عمل أحببته ومازلت أحتفظ به، لا لكونه الأول بالتنفيذ ولكن لخصوصية شروط تنفيذه وتعدّد العناصر فيه وتنوّعها، كان موضوعه سرداً بالّلاوعي ودون تخطيط مسبق لبعض الرموز والأشكال التي يتكرّر ذكرها في الأساطير السورية القديمة، في حين كان الدافع الحقيقي لاختياري «النحت» هذا الشكل من التعبير الذي هو من فرض نفسه عليّ، رغم أن البدايات كانت بالرسم بالمرحلتين الإعدادية والثانوية، ورغبتي بالدراسة الجامعية كانت باتجاه العمارة، وحالياً لست نادماً على شيء لأن النحت شكل من أشكال العمارة الممتعة والمنحازة إلى الجماليات».
فن التعب الممتع
يتحدث الفنان «غازي» عن المراحل التي يمرّ بها العمل في مجال النحت الفني هي الأهم من حيث تحوّلاته والمصادفات المفاجئة التي تحصل خلال فترة الإنجاز والاستفادة منها لمصلحة التشكيل، ويشير إلى الحوار بين المنحوتة ومبدعها والتي قد تتغيّر أكثر من مرة مُفصحة في كل مرّة عن احتمالات استقرار أكثر دهشة ومتعة من قبل، وهكذا إلى أن يكتفي أو يقتنع النحّات بعد حيرة وتفكير بالنهايات واستقرار التشكيل على ما انتهى عليه، فالنحت وفق تعبيره هو «التعب الممتع» أطلقه كمصطلح أو توصيف كرره مراراً في عدة لقاءات وحوارات ومازال مقتنعاً بصحّته وخصوصية دلالاته، هو متعب حقيقة وخاصة إذا ما قورن باللوحة وشروط إنجازها، في حين الممتع بموضوع النحت قد لا يلاحظه سوى المشتغل به، وخاصة في مرحلة التشكيل التي قد تطول أو تنتهي بفترة قصيرة نسبياً وفق مزاج النحات وتوفّر شروط ملائمة، ويبين الفنان بعد أربعة عقود من الاشتغال بالنحت هناك للآن عدة صعوبات ومعاناة شديدة في مراحل إنجاز العمل، بدءاً بالتفكير بالمنحوتات وانتهاءً بتسويقها باستثناء توفّر المكان «مشغل النحات لطفي الرمحين» الذي يشتغل به منذ سنوات بمنطقة «الإحدى عشرية» بدمشق، موضحاً أن الفن التشكيلي محلياً وبكلّ أشكال تعبيره مازال بشكل نخبوي أكثر من الموسيقا مثلاً والتي تجاوزت منذ سنوات هذه الإشكالية ليصبح هناك جمهور واسع مهتماً بها، في حين بقي الفن التشكيلي والنحت على وجه الخصوص حكراً على شريحة معينة محدودة نسبياً، أما عن الأعمال الجمالية في الحدائق وبعض الساحات الصغيرة فيعدها الفنان غازي حالة حضارية بدأت منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي في سورية (ظاهرة الملتقيات النحتية) تحديداً بدمشق، وبعدها انتشرت تلك الحالة كظاهرة تبنّتها أكثر من جهة بما فيها وزارة الثقافة وجهات خاصة، لتشمل فيما بعد إضافة إلى النحت أيضاً التصوير بمختلف تقنيات اللوحة وأشكالها، وعن مفهوم العمل الفني أو المنحوتة في الملتقيات هو لا شكّ يختلف كصياغات وحضور عن عمل المحترف، لأنه مرتبط بفترة إنجاز محدّدة وبظروف خاصة بكل لقاء على حدة، وبمدى توافّر شروط النجاح اللازمة للفنانين المشاركين ومتطلباتهم، وأيضاً اختيار الأمكنة المناسبة، هذا إضافة إلى خصوصية كل فنان ومدى رغبته بالاشتغال أمام الجمهور مباشرة أو مع زملائه من الفنانين، لأن هذا الشكل من التعبير هو بالأساس عمل إبداعي فردي لأن العمل بالنهاية سيستقر في مكان عام وعلى تماس مباشرة مع الناس.
المشغل هو المعرض الدائم
بعد التقاعد من الوظيفة تفرّغت تماماً لعملي النحتي مع بعض الانشغالات بالكتابة فيما يخصّ الفنون التشكيلية يقول الفنان «غازي عانا» ويتابع حديثه: «هذا الموضوع يحقّق لي أيضاً المتعة ذاتها التي أحصّلها من العمل بالنحت لكونها بدأت كهاجس ورغبة منذ اشتغالي بالنحت بداية التسعينيات، وبقيت على علاقة قوية ومتواصلة مع الوسط الثقافي والحالة التشكيلية كمشارك في المعارض والملتقيات والندوات الفنية وكل ما له علاقة بهذا الحراك والذي بالمناسبة لم ينقطع تماماً رغم ظروف الحرب التي استمرت لعقد من الزمن، ومنذ أكثر من سنتين أحضّر لإقامة معرض فردي بناءً على رغبة الأصدقاء المقربّين والغيورين من المهتمين بعملي، ولكني إلى اليوم لست مقتنعاً بالإعلان عنه، ربما لعلاقتي الوثيقة المتواصلة مع الفنانين وصالات العرض ومعرفتي بأدق الأمور وتفاصيلها، هذا إضافة إلى تكاليف التحضير الجيد لمعرض نحت وظروف التسويق ونقل الأعمال وإرجاعها، لذلك أنا مازلت مقتنعاً أن مشغل أو محترف الفنان هو المعرض الدائم والمقصد الأهم لكل المهتمين بالفنون لحوار مفيد وممتع».
حضور حيوي
يتحدث عن الفنان «غازي عانا» الباحث والناقد بالفن التشكيلي «سعد القاسم» قائلاً: «يمتلك الفنان غازي عانا حضوراً قلّ مثله في الحياة التشكيلية السورية، فإلى جانب أنه نحات صاحب تجربة متميزة، ومن ثم مشارك نشط في ملتقيات النحت، والمعارض الفنية، فإنه يمثل حضوراً وافر الحيوية على أكثر من مسار في المحيط الفني والإعلامي. وتمتاز منحوتاته بالأناقة والجمال والانسيابية، وهي بذلك تشبه إلى حد بعيد نصوصه النقدية التي تنجح ببراعة في المزج بين الآراء النقدية الصريحة والواضحة والعارفة، وبين الصياغة الأدبية الأنيقة والبارعة والسلسة، وهو ما جعل كتاباته تحظى دائماً بمصداقية وتقدير عاليين في الوسط التشكيلي، والثقافي عموماً، وجعله يحظى باحترام عميق أهله لإدارة أكثر من عمل ثقافي تشكيلي، كرئاسة تحرير مجلة (الفنون الجميلة). ومن ثم برنامجه التلفزيوني الشهير (رواق الفن) الذي يمكن وصفه دون تردد بأنه أهم ما أنجز عن الفن التشكيلي السوري في تاريخ الإعلام التلفزيوني».
يوظف الفضاء لخدمة فكرته
أما الفنان «كرم النظامي» فيتحدث عن صديقه الفنان «غازي» قائلاً: «الإزميل.. الأخير الذي سقط من يد الآلهة بعد أن أنجزت تكوين الوجود، التقطه النحات السوري المبدع «غازي عانا» أسميته نحات القلوب لأنه يحفر عميقاً في الروح، فيتطاير رذاذ الحب وتتساقط عناقيد ضياء نعتصر من خمرتها عشقاً لحياة ورضا بالإنسانية التي كوّنت حضور هذا الفنان المحب حيث حلّ وإن كان على التضاد بين المتناقضات يعمل فالفضاء جزء من التكوين لديه يوظّفه ببراعة بما يخدم فكرته، فترى في كل منحوتة حياة تنبض، سوري مشبّع بإرث إبداع بلده المتواتر عبر العصور، يصطاد الزمن ويجعلنا من جزئياته وحضوره وبما يليق بلحظة الخلق، لهذا الصديق المبدع كل الحب».