بين إرسال «قواتٍ برية» وتجهيز «صناديقهم الخشبية»: دعّهم ينجزون النقلة الأخيرة…
| فرنسا – فراس عزيز ديب
أُوقِفَ جنيف أم أُجِّل: النتيجة واحدة، لا تهتموا بالحديثِ عنه، بل اجمعوا مِدادَ حبرِكم وخبؤوه في خزائنِ الشمس، لتصنعوا منها حبراً من نورٍ يليقُ بأبنائها المعمَّدين بنخبِ الانتصارات، وخبز الفقراء.
أُوقِفَ جنيف أم أُجِّل، المهم أننا تعلمنا فيه أن «البنادول» وصفةٌ مجرَّبةٌ تفيد أصحاب الطموحات الانفصالية للعلاج من أوجاعهم التاريخية، كما تعلَّمنا أن من يدَّع الحرص على جلب الديمقراطية والحرية للشعب السوري والحفاظ على حياته ويدعم «ثورته» التي تحمل كلَّ شيءٍ «إلا أغصان الزيتون»، لا يكتف بالسكوت عن طرد الإعلاميين السوريين من المؤتمرات الصحفية، بل يدين روسيا لأنها ساهمت عبر عملياتها العسكرية في سورية في فك الحصار عن «نبل والزهراء»، أليسوا هؤلاء شعباً سورياً؟!
كل ما جرى، وكل ما تبعه من تصريحاتٍ وما سبقه من تهديداتٍ هو في السياق الطبيعي لهذه المرحلة الحساسة من السقوطِ الإنساني والأخلاقي على المستوى الدولي. من هنا كنّا نقول دائماً: إن «تسخيف» الصراع واستسهال المعارك العسكرية «إعلامياً»، والنظر للحرب بأنها مجرد خلافٍ بوجهات النظر، هو بحد ذاته استهانةٌ بدماء من ضحّى، والدليل أن آخر العلاج الكي، بمعنى آخر:
منذ أسبوعين وفي مقالٍ بعنوانٍ (بين تحريم الشطرنج وتحليل قتل الأبرياء: «كش ملك».. «كش جنيف»)، قلنا إن الذكاء أن تدفع خصمك في لعبة الشطرنج ليلعب الحركة الأخيرة، لا أن يحوَّلَ هزيمته المحتومة لتعادلٍ. بدأت معركة حلب، استمرت الحرب بأسعار النفط، ولأننا قلنا إن الأمر قد يكون أبعد من كليهما، خرج للعلن السعي «التركي – السعودي» لاستجلاب عدوانٍ بري على سورية، فما هي موجبات هذا التحرك؟!
عند الحديث عن استعداد «آل سعود» لإرسال قواتٍ بريةٍ إلى سورية، فإن أول تساؤلٍ يأتي في البال: ماذا كان يفعل «آل سعود» طوال السنوات الماضية، هل كانوا يرسلون «حماماتَ سلامٍ» مثلاً؟! ثم ألا يخاف «آل سعود» وهم «الوجه الأبيض» لـ«داعش» أن يعلن هؤلاء الجنود انضمامهم للتنظيم لمجرد وصولهم لمناطق سيطرته، لأنهم أساساً مُشبعون بالفكر «الوهابي» الذي هو المصدر الأساس للفكر «الداعشي»، أم إنهم سيتجاوزون هذه المخاوف من خلال استجلاب المرتزقة الكولومبيين والسنغاليين، دون إغفال فرضية أن يقوم «آل خليفة» في مشيخة البحرين، مع قادة ما تبقى من السودان بسد العجز البشري عبر قواتهم العتيدة؟!
لكن في موازاة هذه التساؤلات التي تبدو من نوع «الكوميديا السوداء»، تقفز إلينا مجموعةٌ من الأسئلة الجدية والمنطقية، لعل أهمها:
ماذا عن مصر إلى متى سيبقى «عبد الفتاح السيسي» يتَّبع سياسة قدمٍ في الماء وقدمٍ في البر؟ هل يستطيع أحد وتحديداً أولئك الـ»نيو عروبيين» الذين يشبعوننا خطاباتٍ وتحليلاتٍ عن أهمية دور مصر، أن يشرحوا لنا هوامش وأوراق السياسة المصرية الحالية. هي حتى بأمنها الأهم «المائي» باتت مرتبطةً بوساطةٍ قام بها «آل سعود» مع «الإسرائيليين» لتليين الموقف الإثيوبي في المفاوضات حول مشروع «سد النهضة»، ليظهر السيسي كمفاوضٍ «عنيد» بمقابل إعلان مصر دعمها لإرسال قواتٍ برية إلى سورية، بل المشاركة بها على الجبهة الجنوبية من جهة الأردن، أو سكوتها عن الأمر بالحد الأدنى. تحديداً إن «إسرائيل» وهي المستفيد الأهم مما يجري في سورية ستكون مرتاحة لهذا الغطاء المصري، وإلا فلتخرج القيادة المصرية وتقول رأيها بصراحةٍ، لا أن تبقى بهذه الطريقة الرمادية المبهمة.
أما السؤال الأهم، فهو مرتبطٌ ليس بموقف الولايات المتحدة فحسب، لكنه مرتبطٌ كذلك الأمر بموقف الناتو بشكل عام، فإلى أي مدى سيكون الناتو جاهزاً لإعطاء شرعيةٍ وغطاءٍ لهكذا عملية، بمعنى آخر:
يُخطئ من يظن أن دعوة «آل سعود» هي وليدة اللحظة، أو أنها تمت من دون التشاور مع الولايات المتحدة، لكن مايمكننا حتى الآن تأكيده أن الخطوة وإن كانت بانتظار موافقة الولايات المتحدة التي تدرسها لأنها وحسب زعمهم «غامضةٌ»، لكنها حكماً تمت من دون علم باقي دول الناتو، فما الخيارات المتاحة؟
مبدئياً نتفق أن هذه القوات إن تم إرسالها فهي حكماً ستتم من دون التشاور والتنسيق مع الحكومة السورية، وهذا بطبيعة الحال يعطي أي تدخلٍ من هذا النوع إن حدث صفة «اللاشرعية»، ويعطي القيادة السورية الحق في اتخاذ كافة التدابير للرد على هذا الاعتداء، أو كما قال السيد «وليد المعلم» بمؤتمره الصحفي صباح الأمس، بأن أي تدخلٍ بري دون موافقة الحكومة السورية هو عدوانٌ، والعدوان يرتب مقاومته، وتصبح واجبة لكل مواطن سوري وسنأسف أن يعود هؤلاء بصناديق خشبيةٍ إلى بلادهم.
الأمر الثاني مرتبطٌ بطبيعة الأرض وجبهات المعركة، بمعنى آخر:
على أي الجبهات وتحت أي عناوينٍ ستقاتل هذه القوات، هل ستقاتل تحت عنوان «دعم المعارضة» وبالتالي حربٌ على «داعش» وما يسمونه «النظام» معاً، وهو ماكانت ترفضه الولايات المتحدة مطولاً، أم هي حربٌ على «داعش» وهو ما ادعت الولايات المتحدة تشكيل تحالفها لأجله؟
منطقياً، لا يمكن لأحد أن يقتنع بقيام «آل سعود» بتشكيل هذه القوات وإرسالها لتموت في «الرقة» مثلاً، والتي هي أهم معقلٍ للتنظيم، والمكشوف تماماً على الحدود التركية، لكن يبدو الأمر أعقد من ذلك، وبالتالي هو تحالفٌ برداء الحرب على «داعش» لتستعيد أدواتهم زمام المبادرة، تحديداً في الشمال لسوري المتهالك تحت ضربات الجيش السوري وحلفائه، وهو ما أكده كذلك مسؤولٌ تركي بأن تركيا لن تدخل هذه المغامرة وحيدةً. ربما الأدق أن تركيا لن تدخل هذه المغامرة أساساً، طالما أن هناك من سيتولى إرسال المرتزقة ويدفع المال. بالتالي لا شيء سيتبدل، أي إن الأتراك كانوا يقدمون دعماً لوجستياً لدخول الإرهابيين، اليوم سيقدمون دعماً لوجستياً لدخول من يسمونهم قوات محاربة «داعش»، لكن كيف ستعمل هذه القوات؟
بالمطلق إن عمل القوات يحتاج لتغطيةٍ جوية، فما هي المراكز التي سيتم استهدافها؟ وهنا مربط الفرس:
إذا كان الأمر مرتبطٌاً بدعم المعارضة، فهذا يعني أن قوات التحالف يجب أن توجه ضرباتٍ جوية لمقرات «الجيش السوري»، ما يتيح لباقي التشكيلات المعارضة التقدم، وهذا الأمر لا يمكن النظر له بهذا التبسيط، فهل ستأخذ الولايات المتحدة المبادرة وتقوم بقصف هذه الأهداف؟ أم إنها ستعتمد نهجاً مغايراً يغطي قيام طائرات تركية و«آل سعودية» بهذه المهمة، من منطلقٍ يضع الروس في سورية على المحك، لأن الأمر لن يكون حينها مرتبطٌ فقط برد الفعل الروسي تجاه ذلك، لكنه أيضاً مرتبطٌ برد الفعل السوري ذات نفسه، فإن كان المعلم تحدث بالأمس عن «مقاومة العدوان» فإن هناك من يتحدث عن «آليات الرد السوري» على مثل هكذا عدوان، تحديداً أن السلاح الإستراتيجي السوري الذي يتم المفاخرة به وهو «سلاح الصواريخ» لم يتضرر كما غيره من معدات «الدفاع الجوي»، فهل سيقوى «آل سعود» أو الأتراك مثلاً على تبعات هذه الأحداث وهذه الردود؟!
ربما نثق أن «آل سعود» ليسوا قادرين وهم يهربون من خيبة أمل إلى انتكاسةٍ، بعكس أردوغان الذي نجح إلى حدٍّ بعيد بتعبئة الشعب التركي مع مشروعه «وما زال هناك من يميز بين أغلبية الشعب التركي والحكومة!!».
يدرك أردوغان أن أي حربٍ مفتوحة لن يكون فيها خسارةٌ في الداخل كما يروج «خبراؤنا الإستراتيجيون»، على العكس، هكذا حرب قد تضمن لأردوغان تحالفاً مع المعارضة القومية التي لا تقل عنه تطرفاً، تحديداً أن الحديث عن تصاعد الخطر الكردي جنوباً سيقنعهم بأن المعركة هي معركهٌ تهدِّد «القومية التركية»، وهذا ما سيجمع الجبهة الداخلية ولن يساهم في تفكيكها. لكن هذا لا يكفي، لأن معركة كهذه يحتاج فيها أردوغان لغطاءٍ أهم وهو غطاء الناتو، فهل أن الدول الأوروبية قادرةٌ بعد اليوم على تحمل حماقات أردوغان لدرجة إغراقها بالحرب، وهو ذاته الذي أغرقها باللاجئين؟
للإجابة عن هذا التساؤل ننطلق من فرضية أن الطرف الآخر المتمثل بالحلف (السوري – الروسي – الإيراني) ليس مجرد مشاهد يغادر بعد انتهاء العرض، هو حُكماً يتابع بصمتٍ ما ستؤول إليه التطورات.
منطقياً لنعترف أن الولايات المتحدة الآن بيدها مفاتيح كل شيء، فإما أن تفرمل هذا الجنون، أو أن تعلن علناً دعمها ومشاركتها فيما سيجري، عندها قد نذهب إلى حربٍ عالميةٍ مفتوحةٍ، أو قد يكون الأمر شكلياً ومرتبطاً بتوافقاتٍ مع الروس، متعلقة فقط بالحرب على «داعش»، لكن الأخطر أن تقوم الولايات المتحدة بدعم هذا الأمر شكلاً والتهرب منه مضموناً بمعنى آخر:
يدرك الأميركيون أن «علم النفس» تحدث عن الاكتئاب ثنائي القطبية الذي يقود صاحبه لارتكاب أكبر الحماقات ومنها الانتحار، يبدو أن الأتراك و«آل سعود»، وبعكس الواقعية الأميركية، بات لديهم اكتئابٌ متعدد القطبية بعد توالي الانتكاسات، فـ«آل سعود» أربكهم حديث الميدان وتقدم الجيش السوري، أما الأتراك فهم إضافة إلى ذلك لم ينجحوا حتى بتنفيذ ما كانوا يخططون له من اغتيالاتٍ في سويسرا بحق المعارضين السوريين من خارج «وفد الرياض»، وكلاهما الآن يرى أن كل ما يجري هو إمعانٌ في الهزيمة، فهل سيسمحون بذلك؟ ربما ليس هم من سيسمح أو لا يسمح، بل إنهم لم يفهموا حتى الآن الواقعية الغربية وما الفخ المنصوب لهم. القصة بسيطةٌ وموجودة في أدبيات الفكر السياسي الواقعي:
إن أردت أن تقسِّمهم دعهم يعيشون وهم القوة، ودعمهم يدخلون حروباً خارج حدودهم… ليتهم يلعبون حركتهم الأخيرة، وبمعنى أدق: أياً كان القرار.. فهي حركتهم الأخيرة.