قضايا وآراء

واشنطن ومأزقها في دوامة الحرب الإسرائيلية

| تحسين حلبي

كانت بريطانيا من أوائل الدول الاستعمارية التي جمعت أوروبيين مرتزقة وأرسلتهم لاستيطان أراضي الشعوب التي احتلت بلدانها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وسخرتهم لخدمة مصالحها الاستعمارية، وكان منهم أوروبيون يهود سلحتهم وأرسلتهم إلى فلسطين لكي يقتلوا أصحاب الأرض لمصلحة الإمبراطورية البريطانية، وفي النهاية لم يبق سوى الأوروبيين اليهود مستمرين باستيطانهم لأراضي الشعب الفلسطيني، وتحررت الدول الإفريقية التي استعمرت أراضيها بريطانيا، وغادر المستعمرون البيض تلك الأراضي عائدين إلى أوطانهم.

في منتصف القرن الماضي تولت الولايات المتحدة هذا الدور البريطاني وبدأت تجند المرتزقة من مختلف الدول تحت قيادة الجيش الأميركي لإعادة استعمار دول كثيرة وتوسيع المصالح الأميركية، وهذا ما فعلته على سبيل المثال في الخمسينيات ضد الثورة الكورية المناهضة للاحتلال الأميركي وضد الثورة الفيتنامية التي حررت فيتنام من الاستعمار الفرنسي في عام 1954، ثم هذا ما فعلته حين جندت العراق لشن حرب على إيران ثم احتلت العراق في عام 2003، وفي هذه الأوقات نجحت في تجنيد الأوكرانيين لخوض حرب ضد روسيا، وجندت سكان تايوان لشن حرب ضد الصين، ومثلما فشلت واشنطن وهزمت في فيتنام وكوريا والعراق وسورية، لا بد أن تفشل في هذه الأوقات في حربها ضد روسيا وفي تجنيدها للأوكرانيين من أجل مصالحها، وهذا ما يؤكده الكاتب السياسي الأميركي نيكولاس ديفيس مؤلف كتاب «الدم على أيدينا.. الغزو الأميركي وتدمير العراق» وكتاب «الحرب في أوكرانيا.. صناعة معنى لنزاع بلا معنى».

وتحت عنوان: «من يريد أن يقتل ويموت من أجل الإمبراطورية الأميركية»؟ يوضح ديفيس في مقال نشره في مجلة «أنتي وور» الأميركية في الثامن من شهر أيلول الجاري أن الولايات المتحدة اعتادت في كل حروبها تضليل جنودها وكذلك الجنود المرتزقة الذين تحشدهم إلى جانب جيشها، فقد كشفت مؤسسة استطلاع أميركية باسم «زوغبي بول» في استبيان رأي أجرته عام 2006 حول الحرب الأميركية على العراق، أن «85 بالمئة من القوات الأميركية التي غزت العراق كانوا يعتقدون أن مهمتهم هي الانتقام من الرئيس العراقي صدام حسين بسبب دوره في تفجيرات 11 أيلول 2001 في أميركا، و77 بالمئة كانوا يعتقدون أيضاً أن السبب الرئيس لغزو العراق هو منع صدام من حماية مجموعات منظمة القاعدة الإرهابية»، ويوضح ديفيس أن هذه الأسباب كانت خيالاً زرعته قيادة الجيش في عقول الجنود طوال سنوات ثلاث وضللتهم لكي يقاتلوا ويموتوا من أجل مصالحها، وبعد مقتل عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين في تلك الحروب بدأت الإدارات الأميركية تعتمد على خطة تجنيد مجموعات مسلحة محلية مع استخدام سلاح الطيران الأميركي والصواريخ والمسيرات للقيام بمعظم مهام الجنود الأميركيين لحماية أو توسيع مصالحها والتخلص من المناهضين لسياساتها وهيمنتها، وبهذه الطريقة ازداد اعتمادها على المسلحين أو الجنود المحليين للتخلص من القوى المناهضة لهيمنتها، وهذا ما استخدمته ضد سورية منذ عام 2011 حين جندت دولاً كثيرة لدعم المجموعات الإرهابية ضد القيادة السورية والجيش السوري وهو ما فعلته في ليبيا والعراق واليمن، وفي يومنا هذا أصبح الأوكرانيون هم الذين يقاتلون ويموتون من أجل المصالح الأميركية من دون أن تفقد الولايات المتحدة أي جندي في حربها ضد روسيا وفي هذه السياسة تجند واشنطن وسائل إعلام أميركية وعالمية وأطلسية لتسويغ التضليل الذي تشنه حول أسباب الحرب على روسيا، وهو الخطاب الإعلامي التضليلي نفسه الذي يعممه الكيان الإسرائيلي على وسائل الإعلام الغربية لتسويغ حرب إبادة شعب في الأراضي الفلسطينية، ويؤكد ديفيس أن «الحروب التي تدعمها الإدارة الأميركية الآن ضد روسيا وضد الفلسطينيين بدأت تولد رأياً عاماً يرفض هذا التضليل الأميركي الإسرائيلي حتى داخل صفوف يهود العالم الأوروبيين وفي داخل إسرائيل، وقد ولّد تنديد الرأي العام العالمي، حوافز دفعت الجنود الإسرائيليين للامتناع عن الالتحاق بميدان الحرب حتى قبل عملية «طوفان الأقصى»، وهذا ما كان قد أكده الجنرال الإسرائيلي المتقاعد يتسحاق بريك المسؤول سابقاً عن فرز الجنود الملزمين بالخدمة في الجيش حين تبين له أن أكثر من 35 بالمئة من المجندين الجدد لا يريدون الخدمة الميدانية، فما بالك الآن بعد أن ولدت عملية «طوفان الأقصى» انعدام ثقة الكثير من المجندين بقادتهم الذين أصبحوا منقسمين حول مسؤولية إخفاق الجيش في حماية المستوطنات، وفي ظل هذه النتائج يدرك رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو قبل غيره أن هذا الجيش لن يكون بمقدوره مواجهة حرب على أربع جبهات لم تتوقف نيران المقاومة فيها خلال أكثر من 11 شهراً، كما يدرك أيضاً أنه لن ينجح بأن تنشر له واشنطن جيشها للمشاركة المباشرة في هذه الحرب لأنها حرب غير مضمونة النتائج، ولأن الجنود الأميركيين ليسوا على استعداد للموت من أجل إسرائيل بموجب تقديرات أميركية محايدة لأسباب كثيرة منها تزايد حملات الرأي العام العالمي والأميركي المنددة بحرب إسرائيل في قطاع غزة، ناهيك عن تزايد حدة الانقسام داخل يهود العالم والكيان الإسرائيلي تجاه استمرار الحرب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن