قضايا وآراء

«RT» مثال الحرية

| عبد المؤمن الحسن

قبل أيام عاودت الولايات المتحدة الأميركية وفي تكرار مقيت ومفضوح، استخدامَ سطوتها وسلطويتها غير الشرعية الممنوحة لها بحكم الدولار والعربدة المُستندة إلى القوة العسكرية الغاشمة، عاودت فرضَ عقوبات على «مجموعة RT» الإعلامية الروسية ورئيسةِ تحريرها مرغريتا سيمونيان، كجزء من حزمةِ عقوبات ذكرتها وزارة الخزانة الأميركية في بيان لها حين أفادت أن «التصنيفاتِ التي اتخذتها تكمل إجراءاتِ إنفاذ القانون التي فرضتها وزارة العدل ووزارة الخارجية الأميركية التي قامت بتصنيف المجموعة الإعلامية «روسيا سيفودنيا» وخمسٍ من شركاتها التابعة وهي ريا نوفوستي، RT، TV نوفوستي، رابتلي، وسبوتنيك، كبعثاتٍ أجنبية، وبالتالي قررت اتخاذَ خطوات لفرض قيود على إعطاء التأشيرات لهذه القنوات وعامليها، وقررت إصدارَ عرض «مكافأةٍ من أجل العدالة يصل إلى 10 ملايين دولار لمن يقدم معلوماتٍ متعلقة بتدخل أجنبي في الانتخابات الأميركية» حيث تزعم الولايات المتحدة دون دليل وجودَ تأثير عدائي مزعوم على الانتخابات الرئاسية في البلاد.

البيانُ الأميركي اتهم المسؤولينَ التنفيذيين في «RT» كمنفّذ ممول من الدولة الروسية ببذل جهد لتجنيدِ مؤثرين أميركيين بشكل سري لدعم حملةِ روسيا التي وصفها البيانُ بالخبيثة للتأثير في الانتخابات الأميركية، ولتقوم «RT» باستخدامِهم واجهةً لإخفاء تورطها أو تورطِ الحكومة الروسية في تقديم محتوى يهدف للتأثير في الجماهير الأميركية، وهو ما حصل بالضبط مع مفتشِ الأسلحةِ المعتَمَد من الأمم المتحدة وليام سكوت ريتر الذي كُلّفَ بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق منذ عام 1991 حتى عام 1998، والذي أصبح فيما بعد أحدَ منتقدي السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، وهو الذي صرّحَ قبل الغزو الأميركي للعراق عام 2003 أن العراقَ لا يمتلك أسلحة دمار شامل، حيث استقطبتهُ قناتا «RT» و«سبوتنيك» وقدمتا له المساحة اللازمة ليكشفَ الأكاذيب الأميركية، ونتيجةً لمواقفه وشعبيته ولمدى التأثير الذي أحدثه في الداخل الأميركي عبر القنوات الروسية سعت واشنطن للإطاحةِ بمصداقيته وتشويه سُمعتِه فاعتقلته أكثرَ من مرة كان آخرَها قبل نحو شهر من الآن، وصادرت كل ملفاتهِ ومقتنياته وعاملته كعميلٍ روسي وليس كمواطن أميركي، ما دفعه لتقديم بيان اعتذار على صفحته في منصة التواصل الاجتماعي «X» شكر فيهِ زملاءه الروس على المستوى المهني العالي الذي أظهروهُ خلال السنوات الماضية، وأعلن أنه مضطرٌ بسبب العقوبات الأميركية الأخيرة لإيقافِ تعاونه مع «RT» و«سبوتنيك».

بشكلٍ طبيعي رفضت السلطاتُ الروسية هذه الادعاءات، كما رفضتها مراراً وتكراراً، هذا لأن العقوبات الأميركية والغربية على وسائل الإعلام الروسية مُسيسة وليست جديدة، فقد سبقَ أن فرضَ الاتحاد الأوروبي في كانون الأول 2022 قيوداً على شبكة قنوات «RT» الروسية في إطار حزمتِه التاسعةِ للعقوبات ضد روسيا، على خلفية عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، ثم جاءت الحزمة العاشرة من العقوبات ضد روسيا في شباط 2023، والتي شملت فرض حظرٍ على بث محتوى قناة «RT» العربية وموقعِ «سبوتنيك» العربي على أراضي الاتحاد الأوروبي.

لا تحتملُ الولايات المتحدة أن تستمع لأي أصوات معارضة لسياساتها، وهي غير قادرة على السماح لأي شخص او أي منصة أو موقع أو قناة بأن تفضحَ كذبها وتقدم للشعب الأميركي المخدوع الصورةَ الحقيقيةَ لحكومتِها وأفعالها الشنيعة في كل العالم، لذلك قررت هي والدول التي تدور في فلكها أن تخوض هذه المعركةَ دون أي ضابط أخلاقي، وأن تستخدم فيها كل ما استطاعت أن تحوزه على مدى السنوات الماضية من قدرات وإمكاناتٍ غنمتها من ضعف الدول الأخرى وعدم قدرتها على الوقوف في وجه التغول الأميركي، المستند أساساً إلى قدرات الولاياتِ المتحدة الهائلة عسكرياً واقتصادياً، وسيطرتها على النظام المالي العالمي عبر عملتها المحلية ونظام التحويلات المشبوه «سويفت»، وأيضاً من خلال المؤسساتِ المالية الدولية التي تعمل وفقَ الأجندة الأميركية، وأخيراً وليس آخراً من خلال سيطرتها الواضحة على المنظماتِ الدولية التي تأتمر بالأوامر الأميركية وتسن القرارات الدولية وفقاً لمصالح واشنطن وحلفائها بغض النظر عن مدى توافقِها مع مبادئ العدالة والقانون الدولي.

ليس بعيداً عن ذلك يأتي ما أقدمت عليه فرنسا قبل عدةِ أيام باحتجازها مؤسسَ منصة «تيلغرام» المواطنَ الروسي بافل دوروف، وتوجيهِ اتهامات له بعدد من الجنح والجنايات، بما فيها التواطؤ في إدارة منصةٍ على الإنترنت بغرض تنفيذ معاملاتٍ غير قانونية من قبل مجموعةِ منظمة، وإساءةِ البعض استخدامَ تطبيق المراسلة الشهير في أنشطة غير قانونية، لذلك يواجه دوروف عقوبةَ سجن لمدةٍ تصل إلى 10 سنوات.

هذه التعديات دفعت الخارجية الروسية لتعِدَ بردٍ حاسم، ولتقييم ووصف إقدام الغرب على حجب «RT» و«سبوتنيك» بأنه جزء من الحرب الأميركية الهجينة التي بدأت قبل وقت طويل من انطلاقِ العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، والتي تهدف للإضرار بأنشطةِ وسائل الإعلام الروسية، والتضييقِ على الصحفيين الذين يعملون مع هذه الوسائل بحجةِ التدخل الروسي الزائفِ في الانتخابات الأميركية.

لكن ماذا عن توقيت هذه الخطوة أو الجريمة، فالحزمةُ الجديدة من العقوبات الأميركية على «RT» وبقية زميلاتِها في الإعلام الروسي تأتي على مرمى حجر من الانتخاباتِ الرئاسية الأميركية، وفي ظل حمى هذا السباق السياسي الذي سيُصدّر «للعالم الحر» قائدَه الأميركي للسنوات الأربع المقبلة.

يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية ترغب دوماً في أن تستحضرَ هوليود في كل نشاطاتها واستحقاقاتها، وهي غالباً تبحث عن شخصيةٍ أو دولة أو منظمة لشيطنتها وتنصيبها عدواً تحاول أن تبرر من خلال معركتها معه ضرورةَ القرارات غير العقلانية التي تتخذها للوصول إلى أهدافها، وبالتالي هي تهيئ الرأيَ العام الأميركي والعالمي لنتائج هذه المعركة المختلقة، وتبيح لنفسها عبر هذه السيناريوهات والشخصياتِ المعادية التي تختلقُها، أن تستصدر أي قرارٍ أو تقدم على أي خطوة مهما كانت مجنونة أو غير قانونية سواء كانت غزواً أو احتلالاً.

في حالتنا هذه تعاود المنظومة السياسية الأميركية استحضارَ الهستيريا التي دخلت وأدخلت العالم فيها عام 2016 عندما اتهمت آنذاك السلطاتِ الروسية وأجهزتها التي تسيطرُ عليها ومنها إعلامُها، بالتدخل في معركة الوصول للمكتب البيضاوي في البيت الأبيض بين الجمهوري دونالد ترامب والديمقراطية هيلاري كلينتون، وتعيدُ إنتاج القصة بشكل أكثرَ ملحمية وتضع «RT» بوصفها قناةً روسية تنطقُ بالأفكار والسياساتِ الروسية في موضع العدو الذي يخوضُ الحربَ الإعلاميةَ للدولة الروسية وبالتالي لا بد من قصفه وتدميره وتحجيم تأثيره عبر حصارهِ وتقييده ومنع بثهِ ومعاقبة موظفيه وإداراته.

اليوم يعودُ السيناريو الهوليودي نفسه ومع المرشح الجمهوري ذاته لكن مع مرشحة ديمقراطية مختلفةٍ للرئاسة الأميركية هي نائبُ الرئيس الحالي كامالا هاريس، ومع بعض التعديلات الطريفة والضرورية من كاتب السيناريو الجديد لتظهر المعركة أكثر واقعية وضرورة للمجتمع الأميركي.

تثبت الإدارة الأميركية مجدداً عبر عقوباتِها المفروضة على الإعلام الروسي، أنها تخوض معركةَ كسر عظم وتطويعِ إراداتٍ سياسية لكن بحجج أخرى، وأنها تسعى بكل وضوح لتطهير الفضاءِ الإعلامي الأميركي ولاحقاً العالمي، من أي فكر معارض وفق ما ذكرته الناطقةُ باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، وهو ما يتعارضُ مع التزاماتِ واشنطن القاضية بضمانِ حرية الوصول إلى المعلومات، والتعددية الإعلامية.

ولأنها تعلم أن جزءاً كبيراً من المعركة يتم خوضه في أروقة الصحافة والبرامج التلفزيونية وعلى منصات التواصلِ الاجتماعي المختلفة التي تمتلك هي مجمل السيطرةِ عليها، ها هي تقومُ بتوجيه ضربة ثالثة «تحت الحزام» للقنوات التي دأبت خلال السنين الماضية على الوقوف أمام آلة الإعلامِ الغربية الكاذبة، المخمورةِ بالمال الغربي والمدججةِ بالنفاق وازدواجية المعايير، فكان الهدف الأكثر ضرورةً وأهمية قناة «RT» ومجموعة «روسيا سيفودنيا» بما تقدمه من محتوى إخباري برامجي متوازن ومهني عبر قنواتها المختلفة الناطقة بالعربية والإنكليزية والإسبانية والفرنسية والألمانية إضافة للروسية.

فقدت الولاياتُ المتحدة الأميركية رويداً رويداً كلَّ القيم التي تتبنى الدفاع عنها، وها هي مؤسساتُها تتحول إلى جزءٍ من آلتها البراغماتية، وعلى رأسها الإعلامُ والصحافة الأمريكية التي استطاعت ذاتَ يوم أن توقف آلة الحرب الأميركية في فيتنام وأن تفضحَ جرائمَ سجن أبو غريب في العراق، لكن يبدو أن هذه الأمثلة لم تكن جزءاً من الفكر أو المنظور الأميركي الحقيقي للحريات، وإنما كانت طفرات صدرت عن أشخاص آمنوا للحظاتٍ بمبادئ الحرية والعدالة التي تتغنى بها الولايات المتحدة والغرب عموماً، ثم اكتشفوا متأخرينَ أن الصحافة الأميركية ليست حرةً في انتقاد من هم في السلطة ولا ما يقومــونَ بــه من كفر سياسي وإنساني، وأن الإعلام الأميركي والغربي أصبح أوهنَ من أن يتحمل السرديةَ والمهنية الروسـية المتمثلة في «RT» التي دفعت الثمنَ وستدفعه أكثر على ما يبدو، لتقدم للعالم أجمع مثالاً واضحاً على تجسيدِ معاني الحرية قولاً وفعلاً، لتكون «RT» مثالاً لا تمثالاً للحرية.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن