من دفتر الوطن

يزداد حياة

| حسن م. يوسف

قال لي كما لو أنه يحسم النقاش: «الاعتراف بالواقع فضيلة». قلت: «صحيح، لكن الاستسلام للواقع قد يكون أسوأ من الخيانة!» قال: «العين لا تقاوم المخرز». قلت: «بل تقاومه بتنبهها له، وتجنبها لطعناته الغادرة. «قال: وهل تظن أنك بما تكتبه في الجريدة وتنشره على الفيس بوك، ستحرر فلسطين؟» قلت: «لا، لكنني لا أريد أن أسكت عن الحق!» قال: «ذلك أضعف الإيمان». قلت: «قد يكون أضعف الإيمان، لكنه خير من السكوت! ومن الأجدر بمن لا يملك شجاعة نصرة الحق مثلك، أن يلزم الصمت».
لست أدري لماذا تذكرت بعد انتهاء هذا الحوار السقيم شيخ الشهداء عمر المختار، ففتحت الموسوعة العربية ورحت أقرأ عنه، وقد دهشت عندما تبين لي أن الذكرى الثالثة والتسعين لاستشهاده تصادف يوم غد الإثنين!
ينتمي عمر المختار إلى بيت فرحات من قبيلة منفة التي هي أولى القبائل الهلالية التي دخلت برقة في تغريبه بني هلال الشهيرة.
درس عمر المختار في معهد الجغبوب فشهد له أساتذته بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، والإخلاص في العمل وأداء الواجبات. ولما كبر أصبح معلماً ومرجعاً في فض الخصومات البدوية وخبيراً بمسالك الصحراء. أثناء رحلة له مع محمد المهدي السنوسي إلى السودان علم بوجود أسد مفترس في الجوار، واقترح أحدهم تقديم إحدى الإبل كفدية لاتّقاء شره، إلا أن عمر المختار رفض ذلك قائلاً: «إن الإتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف قد أبطلت، فكيف يصحّ أن نعيدها لحيوان؟ والله أنها علامة ذلٍّ وهوان! « وعندما اعترض الأسد سبيل القافلة برز له عمر وقتله، وسلخ جلده وعلَّقه لكي تراه القوافل الأخرى.
أقام عمر المختار بالسودان سنواتٍ طويلة نائباً عن المهدي السنوسي، وكان السنوسي يردد من فرط إعجابه به: «لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم». قاتل عمر المختار الفرنسيين في تشاد، وقاتل البريطانيين على الحدود المصرية، وعندما نزل الإيطاليون على البر الليبي، أسس عمر المختار قوة من رجال القبائل والتحق بالجيش العثماني، وعندما اتفق الأتراك مع الإيطاليين وانسحبوا من ليبيا، قرر المختار مواصلة المقاومة واتَّبع أسلوب الغارات، إذ كان يسدد الضربات الموجعة للمحتلين ثمَّ ينسحب مع رجاله إلى قلب الصحراء.
عرض الإيطاليون على عمر سراً أن يجعلوا منه «الشخصية الأولى في ليبيا» لكنه رفض عروضهم المتكررة، وقام بتأسيس معسكر للمجاهدين في الجبل الأخضر، تولَّى فيه بنفسه تدريب المقاتلين وتنظيم هجماتهم. وبعد توالي هزائمهم اعتمد الفاشيون سياسة الإبادة والتدمير. قال بينيتو موسوليني: «إننا لا نُحارب ذئابًا كما يقول غراتسياني، بل نحارب أسودًا يُدافعون بشجاعة عن بلادهم. »
استخدم الفاشيون أسلوب الخداع بعد استمالة بعض المقاتلين بالمال، فأعلنوا، بعد المفاوضات، أن عمر المختار ورجاله قد استسلموا لهم، لكن مناورتهم فشلت. اقترح عليه أحدهم أن يترك القتال ويذهب للحج قال: «لن أذهب ولن أبرح هذه البقعة حتى يأتي رسل ربي، وإنّ ثواب الحج لا يفوق ثواب دفاعنا عن الوطن والدين والعقيدة».
في الحادي عشر من أيلول قُتل حصان المجاهد المختار وألقي القبض عليه. كان في الثالثة والسبعين، مريضًا يعاني الحمّى وعندما سأله غراتسياني كم يحتاج من الوقت كي يأمر رجاله بالاستسلام، قال عبارته الشهيرة: «نحن لا نستسلم… ننتصر أو نموت…. وهذه ليست النهاية… بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه… أمَّا أنا… فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي».
كان الطليان قد أعدوا المشنقة وانتهوا من ترتيبات الإعدام قبل بدء المحاكمة، لكن نبوءة المختار لم تتوقف عن التحقق يوماً وها هي روحه تتناسخ في رجال المقاومة مؤكدة بقاءها ما بقيت الأمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن