زهور الربيع تتحول إلى ثمار في الخريف
| بقلم: أ. د. بثينة شعبان
في خضمّ رائحة الموت والعدوان والقتل والإبادة لشعب عريق أصيل وحضاري، وفي خضمّ عجز ونفاق دوليين أصبحا يشكلان كارثة على الحياة الإنسانية برمّتها انطلقت أعمال المنتدى الصيني- الإفريقي في بكين من 4 – 6 أيلول الجاري بحضور أكثر من خمسين دولة إفريقية وبجدول أعمال جاد وشامل وعميق يلامس في جوهره ما أثمرت به عقول وروابط الأقدمين ليستمد روح الصداقة والتعاون البنّاء منها فيبني عليها ويضيف ما أنتجه العقل البشري منذ ذلك الحين، ليستشرف آفاق مستقبل قائم على المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل وتحقيق المنفعة للجميع، وليضع أمن وسلامة وكرامة الإنسان في أعلى سلم أولوياته وليبرهن بما لا يقبل الشك أبداً أن «التحديث لا يعني التغريب»، بل ليبرهن أن المأساة الكبرى التي تعيشها الإنسانية اليوم وبشكل خاص الأمة العربية سببها الأساسي هو «التغريب» والثقة الواهمة أن الغرب حضاري وعادل، في حين يجهز بكل قواته وأسلحته المدمّرة على كل عوامل الحياة الكريمة التي تحاول شعوب الأرض الارتقاء إليها.
حين تقرأ لغة وبنود هذا المنتدى الصيني- الإفريقي الذي تأسس عام 2000 بدءاً بشعاره لهذا العام «التكاتف من أجل دفع التحديث وبناء مجتمع صيني- إفريقي رفيع المستوى ذي مستقبل مشترك» إلى بنود التعاون الشاملة للتدريب والتأهيل وإعفاء ثلاث وثلاثين دولة إفريقية من أي رسوم للتصدير إلى الصين والتركيز على بناء الجسور والطرق والموانئ وشبكات الاتصال والتدريب وفتح البوابات وتأهيل البنية التحتية بين الدول الإفريقية بجهود وتمويل ومشاركة صينية تدرك أن العالم اليوم أمام خيار جميل يقدّم بديلاً مطمئناً للدول النامية وشعوبها سينهي في المستقبل القريب والمتوسط كل المعاناة الناجمة عن هيمنة الغرب وسطوته على مواردها التي استمرت على مدى عقود ويؤذن بإنهاء قدرة هذا الغرب على الاستهانة بمقدرات هذه الدول وخلق الفتن بين أبنائها وشن الحروب من أجل إنهاكها وإبقائها تحت قبضته.
كم هو منعش أن نسمع من الرئيس الصيني شي جين بينغ أن المساعي السامية للتحديث يجب أن تحقق التنمية المتناسقة بين الحضارة المادية والحضارة الروحية، ويعبّر عن حرص الجانب الصيني على تكثيف التواصل الشعبي والتقاني مع الجانب الإفريقي ويدعو إلى الاحترام المتبادل والتسامح والتعايش بين مختلف الحضارات في عملية التحديث، وعبّر عن استعداد الجانب الصيني للعمل مع الجانب الإفريقي على تنفيذ أعمال الشراكة العشرة بين الصين وإفريقيا لدفع التحديث وقيادة عملية التحديث للجنوب العالمي وتتضمن هذه الأعمال العشرة الاستفادة المتبادلة بين الحضارات والشراكة الحقيقية والمتكافئة في التجارة والصناعة والشراكة في الترابط والتواصل والتعاون الإنمائي والشراكة في مجال الصحة والنهوض بالزراعة وخدمة الشعب والشراكة في التنمية الخضراء وتحقيق الأمن والشراكة في برنامج مكثف ومتنوع للتواصل الشعبي والثقافي.
ما تحاول كل هذه البنود تأسيسه والبناء عليه هو احترام الحضارات العريقة واستذكار ما قدمته شعوب هذه الدول من تاريخ ومعرفة ابن بطوطة إلى الرحلات التاريخية للبحارة الصينيين إلى إفريقيا إلى الاعتراف المهم أن التنمية المتناسقة تعتمد على الحضارة المادية والروحية.
وهنا بيت القصيد بالنسبة للأمة العربية التي حباها اللـه بمنطقة نزلت بها الديانات السماوية الثلاث والتي هي في جوهرها هدى ورحمة لبني البشر كما أن أبناء هذه المنطقة قدموا للعالم أهم ما أنتجه فكر الإنسان في الألفيات الماضية من رياضيات وطب وحضارة لا قرين لها ومازالت مؤلفات مبدعيها تشكّل معيناً للغرب الذي ينهب حتى الفكر والأسبقية ويدعيها لنفسه بدلاً من إعطاء كل ذي حق حقه، وما نشهده اليوم من حرب إبادة في فلسطين ولبنان وعدوان آثم متكرر على سورية والعراق واليمن من قبل القوى الصهيونية وأدواتها في الغرب ما هو إلا محاولة شريرة لاجتثاث حضارة هذه الأمة وجوهر ريادتها وإلحاق الإهانة والذل بأبنائها.
الفرق الشاسع الذي يمكن أن نراه اليوم بفضل التقدّم واتساع رقعة علاقات الصين هو بين غرب تقمّص منذ الحرب العالمية الثانية دور الريادة العالمية بعد أن ادعى كاذباً انتصاره على النازية سارقاً بذلك تضحيات 26 مليون شهيد من الاتحاد السوفييتي كان لهم الفضل في الانتصار على النازية، وبنى الغرب على كذبته هذه أسس نظام دولي أعطى لنفسه حق المركزية المالية والسياسية والتجارية والإنسانية فيه، ونسج قصصاً زائفة عن إيمانه بالعدالة وحقوق الإنسان والمساواة وما إلى هنالك من المثل، نكتشف اليوم بما لا يقبل الشك أنها مجرد ادعاءات لا مرتسمات لها على أرض الواقع، إذ إن كل ما فعله هذا الغرب بعد الحرب العالمية الثانية هو نشر القواعد العسكرية في كل أنحاء العالم ووضع أسس دايتون ليكون الدولار هو العملة الوحيدة المسيطرة على السوق العالمية ومن ثمّ استعمال الفتن والحروب وخاصة في المناطق التي يعمل على نهب ثرواتها مثل إفريقيا والوطن العربي.
وبالمقارنة بين ما عشناه نحن كعرب في تاريخنا الحديث من حروب الاستقلال إلى 1967 و1973 واحتلال العراق والحرب على لبنان والحروب الإرهابية على دولنا العربية تحت تسمية «الربيع العربي» إلى حرب الإبادة الشنيعة بحق أهلنا في فلسطين، وبين ما تقدمه الصين للدول الإفريقية ودول الجنوب من سردية وأعمال تنبئ بنهضة مشتركة وإعادة خيرات إفريقيا إلى أبنائها وتقديم يد العون لهم لاستثمار هذه الخيرات بما يصبّ بمصالحهم بدلاً من تجييرها ونهبها من قبل الدول الغربية التي بنت بلدانها على الثروات التي نهبتها من شعوبنا متهمة بلداننا بالتخلف وعدم القدرة على التحديث في الوقت الذي كان الشغل الشاغل للغرب، ولا يزال، هو منع هذه الدول من النهوض ومن امتلاك مفاتيح تقدمها واستقلالها الحقيقي بثرواتها وقراراتها.
بهذه المقارنة نصل إلى الاستنتاج الأهم لأبناء لغة الضاد وهو أن التبعية، التي اجتمعت عدة عوامل في وطننا لزرعها في الأفكار والمناهج، للغرب وادعاءاته هي أساس البلاء في كل ما نشهده ونعانيه من حروب إبادة وويلات وأن التحرر الحقيقي والاستقلال الحقيقي لابدّ أن يبدأ من مفهوم واضح وجليّ، وهو أن العدو لا يمكن أن يكون وسيطاً وأن من يغدق أسلحة الموت على أعدائي ليدمروا حضارتي وتاريخي وهويتي لا يمكن أن يكون صديقاً ولا منصفاً.
يقول المثل الإفريقي «الأصدقاء الحقيقيون هم الذين يسيرون على الطريق نفسه» والسؤال هو: أي مرّة في تاريخنا كان الغرب أو أي دولة غربية تسير معنا على الطريق نفسه؟ أقلّ ما يمكن أن ينتج عن حرب الإبادة الشنيعة بحق العرب جميعاً هو أن تشكّل جرس إنذار لهم ولهويتهم وحضارتهم وتاريخهم، وها هي الصين تمثل بديلاً محترماً وموثوقاً نشاركها الحضارة والعراقة والتاريخ والحضارة الروحية أيضاً، وليس فقط المادية التي اصطفاها الغرب وحدها لنفسه والتي سوف تؤذن بانهياره في وقت غير بعيد، إذ لا يمكن للحياة البشرية أن تستقيم وتستمر إلا من خلال التوازن بين المادي والروح، ولاشك أن مصيبة الغرب البنيوية هي أنه ألغى البعد الروحي وجعل المال والمادة هما المعبودان الوحيدان والهدف الأسمى الذي يدفع الناس لحيازته والإكثار منه.
مع إطلالة الصين كقوة عظمى متوازنة ذات حضارة عريقة وبعد إنساني ومجتمعي نتشارك بها معها، علينا جميعاً كعرب أن ننفض غبار الاستشراق والأوهام التي تمكّن الغرب من زراعتها حتى في أنفس النهضويين العرب، وأن نراجع التاريخ والجغرافيا وأن نؤمن أن الغرب لا يرى في وطننا العربي سوى النفط والموقع الجغرافي، وأن نتجه إلى أصدقاء يسيرون معنا على الطريق نفسه بدلاً من اجترار ثقة بغرب برهن عشرات المرات بما لا يقبل الشك أنه ليس أهلاً لها.
لكي تتحول دروس الإبادة الصهيونية للعرب في فلسطين إلى دروس مفيدة لكل ما يجري من المحيط إلى الخليج، لابد أن يرى كل منا نفسه، يجلس على ركام بيته كما يجلس أهل غزة والضفة الصامدون، وأن ننطلق من هذه المعادلة إلى وضع أسس مستقبلية مختلفة لهذه الأمة العربية التي حباها اللـه بكتابه العظيم و«بلسان عربي مبين».