قضايا وآراء

«العدالة الدولية» على المحك

| عبد المنعم علي عيسى

منذ أن طلب كريم خان، شهر أيار الماضي، من «المحكمة الجنائية الدولية»، التي يشغل فيها منصب المدعي العام، إصدار خمس مذكرات توقيف بحق أقطاب الصراع الدائر في غزة، تحول الأمر إلى صراع لا يقل أهمية عن هذا الأخير، فالمحكمة التي تأسست عام 2002، والتي بلغ عدد الموقعين عليها حتى الآن 112 دولة، تلزم هؤلاء بالقبض على من تصدر بحقه مذكرة توقيف إذا ما زار دولهم أو كان عابراً منها، وعلى الرغم من أن الأمر يبقى «نظرياً» لاعتبارات لها علاقة بطبيعة النظام الدولي والهيمنة الأميركية التامة عليه، إلا أنه يظل ذا قيمة قانونية ولا شك سوف ترخي بحمولاتها على الصراع.

من المفترض في غضون الأيام القليلة المقبلة أن تصدر المحكمة قرارها بشأن مذكرات التوقيف التي طلبها مدعيها العام، والتي طالب فيها باعتقال كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، إضافة إلى رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار والقائد العام لـ«كتائب القسام» محمد الضيف، فيما أسقطت مذكرة التوقيف الخامسة المقترحة بحق إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي السابق في حماس بعد استشهاده بضربة إسرائيلية في طهران في اليوم الأخير من شهر تموز المنصرم، والفعل الذي ظل خان مصراً عليه رغم الضغوط التي يتعرض لها، وهو ما صرح به مرات عدة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، بات نقطة تجاذب دولية لا يبدو أن موازين القوى القائمة سوف تلعب الدور الحاسم فيها، إذ لطالما كان من المؤكد أن ميزان القوى يميل صوب أولئك الرافضين لطلب خان على حساب المؤيدين، لكن خان يبدو مصراً على وجوب تحقيق «العدالة الدولية» تحت أي ظرف كان.

يبرز إخفاق الضغوط الغربية على خان، أقله حتى الآن، من خلال الحركة الالتفافية التي مضى إليها بنيامين نتنياهو مؤخراً، فقبل أيام أوعز هذا الأخير إلى النائب العام الإسرائيلية غالي بهاراف ميارا بفتح تحقيق جنائي معه، جنباً إلى جنب مع وزير دفاعه، حول الحرب في غزة، والمؤكد هنا أن نتنياهو يريد أن يفتح ذلك الملف ثم يغلقه بسرعة بعد إرسال نتائجه التي خلص إليها إلى «المحكمة الجنائية»، والتي ستقول، من دون شك، إن ما من جرائم مرتكبة في غزة، والهدف من ذلك هو تدعيم مواقف الدول الرافضة لإصدار مذكرات التوقيف آنفة الذكر، والتي قال عنها خان، الأسبوع الماضي، أنها بلغت 53 دولة و7 منظمات حقوقية.

من الواضح هنا أن ثمة ضغوطاً كبيرة يتعرض لها قضاة المحكمة كيلا يصدروا مذكرات التوقيف التي طالب بها المدعي العام، لكن الراجح هو أن المناخات داخل المحكمة تميل إلى رفض تلك الضغوط على وقع سيلان الدم المنسكب في غزة منذ أحد عشر شهراً دون توقف، ولذا فالضغوط تتجه نحو تأجيل الإصدار على اعتبار أن إسرائيل، ومعها الغرب، يريان أن صدورها سوف يكون ذا «تأثير مزعزع للاستقرار في المنطقة» وفقاً لتوصيف نتنياهو نفسه، وكذا سيلعب دوراً سلبياً في مسار المفاوضات الرامية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة وفقاً لتوصيف وزير خارجية هذا الأخير، ليظل الأمر رهيناً بتوازن القوى على ضفتي الصراع بعيداً عن مقتضيات «العدالة الدولية» التي قال خان إن «ما من قوة سوف تثنيه عن المطالبة بها».

في حال صدرت مذكرات الاعتقال فإن التداعيات التي ستتولد عنها ستكون شديدة الأثر في المجالين السياسي والاقتصادي على الكيان الإسرائيلي الذي سيكون على موعد جديد من تعمق عزلته الدولية التي شهدت خلال أشهر الحرب محطات لا بأس بها، والفعل سوف يكون هذه المرة «أوجع» لكونه يعتد بمرجعية قانونية يفترض لها أن تكون فوق كل المرجعيات، وفي الثاني، الاقتصادي، قد يجد الاقتصاد الإسرائيلي نفسه أمام هزة هي الأشد من بين الهزات التي تعرض لها منذ الـ7 من تشرين الأول المنصرم، بفعل الانسحابات المحتملة للرساميل والمستثمرين، إذ لطالما كان من الثابت أن سعي المال الدائم هو نحو الاستقرار، وحيث لا يوجد هذا الأخير تصبح فرص الاستثمار في خطر، والمال في النهاية لا يعمل بمنهج المجازفة تحت أي ظرف كان، بل لا تعنيه تلك الزراكش، من نوع الإيديولوجيات وغيرها، التي تستخدم عادة للتزيين بغرض الحث أو التشجيع.

إذا ما ذهبت محكمة «الجنايات الدولية» نحو ما يطالب به المدعي العام كريم خان فإن ذلك سيكون المحطة الأبرز في الصراع الدائر راهناً في غزة، بل ذاك الدائر في المنطقة منــذ نحو ثمانية عقود، فإن تصبح الحروب تحت «مقصلة» القوانين أمر سيكون له أثره الكبير بالنسبة لكيان متفلت من كل القوانين، وهو ما انفك يمارسها وفق قوانينــه الخاصــة، فيمـارس كل هذا القتـل والتشريد والإبادة التي تشرعنها تلك القوانين التي باتت تحيـل الكيان إلى عصر لا ينتمي لهذا العصر، بل ولا إلى عصـور القرون الوسطى.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن