السباق بين الحمار الأزرق والفيل الأحمر وخريف الغضب الأميركي
| د. قحطان السيوفي
كل أربع سنوات تشهد الولايات المتحدة طقوساً انتخابية رئاسية تحرك الحياة السياسية بعنف في الجسد السياسي الأميركي.
حمار أزرق وفيل أحمر، هكذا صنعت السياسة الأميركية علامتها المميزة، لتنحصر بين الحمار الأزرق كدلالة على الحزب الديمقراطي، أو الفيل الأحمر انتماءً للحزب الجمهوري، وخريف الانتخابات الرئاسية الأميركية، في الخامس من تشرين الثاني المقبل، جعل الأعين مشدودة إلى ذلك اليوم المشهود، وكل يوم يمرّ، يحتدُّ الخلافُ ويشتدُّ التنافسُ وربما العنف، في السباق إلى البيت الأبيض.
وبين الأزرق والأحمر هل تتغير توجهات العقيدة الإستراتيجية الأميركية على ضوء الانتخابات الرئاسية الأميركية الساخنة 2024؟ وهنا نشير إلى قرار حكومة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن بغزو العراق سنة 2003، حيث قوبل بالرفض من دول باسم الشرعية القانونية والشرعية الأممية التي لا تجيز مثل هذا التدخل العسكري لعدم وجود الأدلة حسب ميثاق «الأمم المتحدة».
البون شاسع بين الحفاظ على الشرعية القانونية الدولية والبلطجة الأميركية لتدمير العراق وأهله، فقد مُزّقت وقتها قواعد التفاهم حول محددات النظام العالمي والترويج للواقعية الإستراتيجية اللاقانونية، لتسويغ تدمير العراق.
العقيدة السياسية الأميركية تضع مصالح أميركا ومصالح حلفائها، وخاصة إسرائيل، فوق مصالح الديمقراطية والقانون الدولي وحقوق الإنسان، وهذه العقيدة تقوم على غلبة المصالح الإستراتيجية على القواعد القانونية الدولية، باعتبارها «دركي العالم»، وتهيمن على المؤسسات الدولية والنظام العالمي، وهذا يفسر ما يجري اليوم في المنطقة، وسياسة ازدواجية المعايير والدعم الكامل للعدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة.
ويجد الناخب الأميركي نفسه اليوم أمام خيارين على طرفي نقيض؛ وهناك تناقض بين الحزبين والمرشحَين والبرنامجَين والثقافة السياسية والمعايير الأخلاقية.
بعد احتدام «الحرب الباردة» في عقد الخمسينيات، وتفجّر «حركة الحقوق المدنية» مطلع عقد الستينات، أعيد الفرز الجغرافي- السياسي والأيديولوجي بين الحزبين.
وتتجلّى صورة التناقض السياسي متكاملة في السباق الرئاسي الحالي؛ كانت أول مرشحة جدية للسباق باتجاه البيت الأبيض هيلاري كلينتون، ضد دونالد ترامب الجمهوري عام 2016، إلا أنها خسرت.
ونُقل عنها أنها قالت بعد خسارتها الانتخابات إن النساء الأميركيات قد خذلنها، وإن النساء الأميركيات «لا يثقن بامرأة أن تكون القائد الأعلى للقوات المسلحة»، هل يتكرر ذلك مع كامالا هاريس؟
بعد 8 سنوات من انتخابات عام 2016 هل تغير المزاج الأميركي؟ وهل أصبح ممكناً أن تكون رئيسة الولايات المتحدة امرأة وملونة أيضاً؟ سؤال تصعب الإجابة عنه، رغم أن هاريس، تتقدم بشكل طفيف في استطلاعات الرأي! والسباق بين الحمار الأزرق والفيل الأحمر الذي يشاهده العالم فيه كثير من «اللامعقول»؛ فيه استخدام عبارات قاسية واتهامات فظة لا تخلو من العنف.
السياسة الأميركية والرأي العام فيما قبل الانتخابات يتغيران بشكل سريع، يتذكر الأميركيون يوم السادس من كانون الثاني 2020 والهجوم على مبنى الكونغرس؛ كهجوم على مؤسسات الدولة وعلى ما يسمى القيم الأميركية.
الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب، وصف مرشحة الحزب الديمقراطي ومنافسته للرئاسة الأميركية، كامالا هاريس، بأنها «شيوعية» ويعتقد الكثيرون أن السيدة هاريس ليس لديها أدنى فكرة عن الشيوعية، وهذا يؤكد أن أميركا اليوم بين قراءتين لفتتا انتباه المراقبين المهتمين بالشأن الأميركي، ونشرتا عبر أكبر مجلتين سياسيتين أميركيتين؛ القراءة الأولى قدمها الكاتب الأميركي المعروف، مايكل هيرش، عبر مجلة «فورين بوليسي»، وتناول فيها آراء لمستشار الأمن القومي الأميركي للمرشحة الديمقراطية هاريس، فيليب غودرون، ونائبته ريبيكا ليسنر، هذه الرؤية، تدور حول حتمية إعادة الولايات المتحدة التفكير في سياساتها ومساراتها الخارجية، لتصبح أقل غطرسة، وتعترف صراحة بتجاوزاتها السابقة، وتخفض من طموحاتها.
في إطار توجهات إستراتيجية مغايرة عن تلك التي عرفها العالم في نهايات القرن العشرين، أميركا المحافظين الجدد قبل أن تتعدل وتتبدل هذه الإستراتيجية عام 2010 بما عرف بـ«الاستدارة نحو آسيا»؛ بهدف حصار روسيا والصين.
أصدقاء هاريس يرون أنها مقتنعة بأن فكرة قيادة وريادة النظام الليبرالي العالمي، قد عفا عليها الزمن، وبات الأمر يتطلب أدوات ومقاربات مغايرة، تأتي القوة العسكرية في آخر صفوفها، ما يتطلب تغيرات جذرية في العقلية البنيوية الأميركية خارجياً وداخلياً.
القراءة الأخرى قدمها عبر مجلة «فورين آفيرز»، ريتشار هاس، المفكر والمنظّر السياسي الجمهوري، والرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية الأميركي؛ وتقوم الرؤية على طرق جديدة للتعاطي مع الحلفاء، بعيدة عن القوة العسكرية الخشنة، وهو هنا يتماهى مع طروحات البروفيسور جوزيف ناي، حول القوة الأميركية الناعمة، ويرى هاس بأن العسكرية المجردة والصماء، لم تعد تجدي، ولاسيما أن الحلفاء باتوا يتجهزون لتقليل اعتمادهم على الولايات المتحدة.
وفي عالم على بعد خطوات من تعددية قطبية قادمة لا محالة، باتت أميركا اليوم بين فريقين؛ فريق هاريس، الذي يتحدث عن نهج مفارق لإيديولوجيات وإستراتيجيات الهيمنة والسيطرة، وإن بطريقة برغماتية، وفريق آخر يمثله غلاة محافظون جمهوريون، ومشروعهم اليميني الكبير والخطير لأميركا والعالم معاً.
في المناظرة الأولى بين ترامب وهاريس، حاولت فيها هاريس بلورة صورة نهائية لها، في ظل مواقفها الملتبسة، ما يعني إعادة تشكيل تضاريس سياسية لبرنامجها الرئاسي.
ترامب في مناظرته، لم يهدد بشيء داخلي كما فعل مع بايدن، ولكنه راح يجرِّب تهديداً آخر على مستوى الصوت اليهودي الانتخابي داخل البلاد.
هذا السلاح استخدمه في سباق 2020 فلم ينفعه؟ ليس سراً أن اتفاقيات السلام الإبراهيمي التي جرى عقدها بين تل أبيب وأربع عواصم عربية كانت من اختراع ترامب وكان ذلك سابقاً على انتخابات 2020 بقليل، ولما جرت، خسر السباق.
واليوم عاد يستخدم السلاح ذاته في لحظة من لحظات اليأس، مستنداً إلى أن موقف هاريس تجاه إسرائيل، ظاهرياً يبدو أنه أقل منه تأييداً لاستمرار الحرب على قطاع غزة، ويبدو أكثر تحفظاً، والدليل أنها لم تحضر خطاب بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس.
موقف هاريس كان مع حل الدولتين، ما استفز اليمين الإسرائيلي، لكنه لاقى قبولاً بين اليهود الأميركيين، في وقت رأى فيه ترامب أن وصولها إلى الرئاسة سيُلغي إسرائيل من الوجود خلال سنتين.
فصل الخريف الأميركي 2024، سيكون ساخناً جداً، وخاصة بعد المحاولة الثانية لاغتيال ترامب، وربما تؤدي نتائج الانتخابات إلى تطورات عنيفة، شبيهة بتلك التي حدثت في 6 كانون الثاني 2020، بمبنى الكابيتول.
وهذا يعني أن فصل الخريف الأميركي سيكون خريف الغضب الشعبي، نتيجة الانقسام، وخصوصاً في بلد كأميركا، يتيح فيه الدستور للمواطنين حقّ حمل السلاح، ما قد يؤجج العنف في السباق المحموم إلى البيت الأبيض.
وزير وسفير سوري سابق