أنقرة تريد صلحاً توجبه الظروف فحسب!
| عبد المنعم علي عيسى
شكل الاجتماع المشترك ما بين الاستخبارات التركية وبين طيف واسع من مكونات المعارضة السورية، والمنعقد مطلع هذا الشهر بمطار غازي عينتاب التركي، خطوة أرادت أنقرة القول من خلالها إنها ماضية في سياق إزالة «الحجارة» من على الطريق الموصل ما بينها وبين دمشق، فالاجتماع، الذي ذكرت تقارير عدة أنه شهد انقساماً حاداً ما بين مكونات المعارضة، تشير معطياته إلى وجود قرار تركي يقضي بضبط «إيقاع» الفصائل المسلحة السورية التي تعمل تحت رايته، ولربما الذهاب إلى توحيد صفوفها من خلال إيجاد «مرجعية» واحدة تلافياً لظهور «الألغام» التي يمكن أن تبرز من هنا وهناك انطلاقاً من تضارب المصالح القائم فيما بين تلك الفصائل، الأمر الذي لا شك في حصوله خلال سير «العربة» الطويل، ولربما يستثنى من ذاك الأمر تنظيم «هيئة تحرير الشام – جبهة النصرة سابقاً» الذي من الصعب ضبطه وفق الآلية السابقة انطلاقاً من كونه خاضع لتفاهمات روسية- تركية سابقة، والراجح هو أن حله سيظل رهيناً باتفاقات سورية- تركية منتظرة يتوقع لها أن تفضي إلى تعريفات محددة يجري من خلالها الفرز ما بين الفصائل الإرهابية وبين باقي الفصائل، الأمر الذي سيحدد، إلى درجة كبيرة، طبيعة التعاطي معها.
في الغضون يبدي الشمال السوري حالة هي أقرب للانفجار الفصائلي على خلفية المحاولة التركية آنفة الذكر، وأمام هذا المشهد ستجد أنقرة نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما، الأول أن تعمل على إيجاد صيغة توافقية تبقي على الحال القائمة ما يعني استمرار الصراع الفصائلي والإخلال بمبدأ «نزع الألغام» الذي تفرضه مسارات التقارب التركي- السوري، والثاني أن تنحاز إلى الفصائل المنضوية تحت راية «الحكومة المؤقتة»، لكن ستكون للفعل أثمان لا بديل من دفعها على ضفاف عدة، ولذا فإن من الراجح أن تتوالى الاجتماعات على منوال اجتماع مطار غازي عينتاب الأمر الذي يحقق غايتان، أولاهما امتصاص الفورة التي تشهدها الفصائل المسلحة، بشتى مشاربها، ومن ثم احتواءها عبر اللعب على عاملي الوقت وتضارب المصالح، وثانيهما أن التكرار سيعطي أنقرة فرصة «تحديث» خريطتها، والوقوف على ما يستجد من مواقف متغيرة، لتلك الفصائل، بفعلي حسابات المصالح وتوازنات القوى المتغيرة باستمرار على وقع العديد من المستجدات.
من الراجح هنا أن أنقرة سوف تنحو باتجاه الخيار الأول، أي الانحياز لـ«الحكومة المؤقتة»، ومعها «الائتلاف المعارض»، لكن بعد العمل على إجراء تغييرات هيكلية فيهما، والراجح هو أن ذلك سوف يطيح بالعديد من الرؤوس البارزة في كلا الكيانين، الأمر الذي لا بديل منه لكي يصبحا أكثر مواءمة للسياسة التركية التي تعمل على تصدير مقولة إن «خيار التقارب مع دمشق لا رجعة فيه» وفقاً لتصريح كان قد أدلى به وزير الخارجية التركي حقان فيدان قبل أيام، والراجح أيضاً أن ذلك كله يجري بالتنسيق مع الأميركيين خطوة بخطوة في كلا المسربين، أي إعادة هيكلة الفصائل وخيار التقارب مع دمشق، فبعيد إطلاق فيدان لتصريحه آنف الذكر قالت وكالة «الأناضول» التركية: إن نائب وزير الخارجية نوح يلماظ كان قد اجتمع مع القائم بأعمال وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية جون باس وإن «الاجتماع تناول التطورات المتعلقة بسورية»، وهذا يفترض حتماً سرداً لسياقات الأحداث، ومعه تبادلاً للمواقف فيما بين الطرفين.
المشكلة في معالجات كهذه، على الرغم من أهميتها، هو أنها لا تطول أعماق الأزمة التي وصلت إليها العلاقات بين البلدين، وهي لن تفعل ما لم تسعَ أنقرة نحو تفكيك «الطبقات» من الدماء والتدمير الذي مارسته على امتداد نحو 13 عاماً، وهذا يحتاج إلى مقاربات لا تشبه تلك الحاصلة الآن، فالحديث عن «اتفاق أضنة» المقر منذ 1998، أو البناء عليه أو توسعته، لا يصح من دون الحديث عن أولويات وأسس للعلاقة بين الطرفين كما يفرضها الجوار الجغرافي، وبغض النظر عن الظروف التي استولدت ذلك الاتفاق الذي كان مجحفا بحق السوريين أنفسهم، فإن الفهم التركي له كان غالباً ما كان يشكل «ذريعة» للتدخل في الجوار السوري، ومع ذلك فقد مضت أنقرة للانقلاب عليه، وكذا على كل الاتفاقات الموقعة مع دمشق، منذ اللحظة الأولى لبدء شرارة الاحتجاجات السورية في آذار 2011، وهذا لوحده كافٍ لاستيلاد المزيد من القلق لدى الحكومة السورية التي لا بد أنها نظرت للفعل على أنه استهداف للجغرافيا السورية قبل أن يكون استهدافاً لها، والشاهد هو أن المطالبات بالعودة إلى «الميثاق الملي» 1920، كأساس تراه أنقرة «شرعياً» للمطالبة بأراض سورية وعراقية في آن واحد، كانت قد ملأت منابر السياسة والأحزاب التركية منذ الأشهر الأولى للأزمة السورية، ففي العام 2010، أي ما قبل الأزمة، قال أحمد داؤود أوغلو، الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية التركي في حينها، «إنكلترا زعيمة لكومنولث إنكليزي من مستعمراتها السابقة، لماذا لا تقيم تركيا من جديد زعامة في الأراضي العثمانية السابقة»؟! أما المتحدث السابق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، فقد قال عام 2019: إن «الذي يعرف تركيا الحديثة يدرك أن أمنها يبدأ من خلف حدود الميثاق الملي».
لا يمكن، بأي حال من الأحوال، لأي مفاوضات سورية- تركية أن تنجح، وترسم لاستقرار بعيد المدى، من دون رسم إطار، يأخذ بعين الاعتبار الهواجس التي تثيرها تلك التصريحات، وهو يتعدى الحديث عن تفكيك فصيل من هنا، أو فتح معبر من هناك.
قد تفضي السياسات التركية الراهنة إلى توافق، وذاك إيجابي ومطلوب، لكن المطلوب أكثر هو وضع الأسس لإطار مستدام يمكن له أن يعطي تلك التوافقات صفة «التاريخية» خصوصاً أن اتفاقية «لوزان» 1923 قد مضى عام على «انتهاء صلاحيتها»، ومعها انتهت صلاحية «الميثاق الملي» الذي كان أحد إفرازاتها.
كاتب سوري