من دفتر الوطن

عالم ضاحك!

| عصام داري

يبدو أنني بدأت أفقد روح الدعابة التي رافقتني طوال نصف قرن، وباتت الكتابة الساخرة تهجرني بعد كل تلك السنوات التي كانت رفيقة دروبي وأسلوبي في إيصال الأفكار التي تراودني وأريد التعبير عنها من دون الدخول في مواجهات مباشرة متعبة وتجلب وجع الرأس والقدمين!.

أصبحنا في عالم غريب ومريب، وسرق بعض الساسة من الكتاب الساخرين الأسلوب الساخر، وامتهنوا التصريحات الساخرة فصاروا يضحكون على الناس، ويظنون أنهم ظرفاء عصرهم، لكنهم لم يجلبوا لهم الضحكة النقية والابتسامة الرقيقة الحلوة.

عند هذا الحد أصبحنا أمام التطبيق العملي للحكمة القائلة: شر البلية ما يضحك، إلا أن الشر هو الكلمة الوحيدة الباقية من تلك الحكمة القديمة التي لم تعد تضحك أحداً.

كان الكتاب يراهنون على الكلمة الساخرة التي تعتبر أقصر طريق إلى عقل القارئ، فصار عليهم أن يحسبوا ألف حساب لمقص الرقيب الذي لا يرحم، فأي حرف قد يفسر تفسيرات لم تخطر على بال الكاتب والقارئ والمتلقي، فكيف للرقيب أن وصل بذكائه الخارق إلى هذا التحليل أو الفهم.

من يضحك على من في هذا العالم الموحش والمتوحش؟ والضحك وفق هذا المفهوم هو امتهان الكذب والغش والرياء واستغفال واستغباء الناس، والضحك على اللحى، كما يقال.

سأعترف بأنني وصلت إلى مرحلة صرت فيها أخشى من الكتابة، أكانت ساخرة أم جدية، لأنني اكتشفت بعد نصف قرن أن كل كلمة محسوبة عليك ومسجلة في أضابيرك المخفية، ويا ويلك إذا كان حجم إضبارتك سميكاً!.

فإذا كانت الكتابة المتزنة التي تقدم المعلومة بالأرقام والوثائق الدامغة، إذا كانت هذه الكتابة تسبب لصاحبها المساءلة والقيل والقال، فإن الكتابة الساخرة تتسبب مشكلات أكبر وأصعب قد تودي إلى التهلكة.

المعروف أن الكتابة الساخرة هي من أصعب أنواع الكتابة في الأدب والصحافة والفن، توازيها في ذلك الكتابة للأطفال، فليس كل من هبَّ ودبَّ مؤهلاً للكتابة للطفل، فهنا تكمن الخطورة، لأن التأسيس يبدأ من عمر الطفولة، وإذا كان التأسيس سيئاً، فالنتائج ستكون كارثية على الأطفال والمجتمع.

وبعيداً عن هذا الموضوع، وأدب الطفل، يبدو أننا نعيش في عالم ضاحك لا يحتاج إلى كتابات ساخرة وفن ساخر وصحافة ساخرة، ولأن الحال وصل إلى هذه الدرجة فمن الأفضل التوقف عن الكتابة الساخرة والجدية، الذكية والغبية، الواضحة والمخفية كي نرتاح من السؤال والجواب، ووجع الرأس يا حباب، فعلينا أن نختار الخط المستقيم في سيرنا اليومي لأن أقصر الطرق بين نقطتين هو الخط المستقيم كما هو معروف.

لكن الخط المستقيم يحتاج إلى شجاعة وقلب قوي وقدرة على المغامرة والمقامرة، لأن مثل هذا الخط يعني أن تقدم للجمهور الحقيقة الساطعة من دون لف ودوران، وهذا الأمر هو أصعب شيء في هذا العالم الضاحك الذي يريد منك أن تضحك على خيبتك وتصدق كل الأكاذيب التي تقدم لك كوجبات يومية سريعة التحضير والالتهام!.

وأختم مع أغنية للراحل فريد الأطرش أظن أنها تعبر عن حالنا، يقول مطلعها: عينيه بتضحك وقلبي بيبكي، وما بين البكاء والضحك سفرة عمر!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن