تلويحة يد في وداع أكرم مسوح الذي كرّم مدينته ومثقفيها … الهوية السورية والطفولة موضوعات الشاعر الأثيرة
| د. راتب سكر
ودَّعتْ مدينة حماة ظهر الإثنين 23/9/2024 الشاعر أكرم مسُّوح إلى مثواه الأخير، بعد حياة حافلة بالشعر والحب والصداقات.
ولد في حماة عام 1935، أصدر ديوانه الأول «مرافئ الشوق» (1976)، ثم ديوانه الثاني «في البالِ أنتِ» (1995)، ثم ديوانه الثالث «من عينيك أبدأ» (2010م)، وترك مجموعة أناشيد للأطفال تميزت بتوهج قيمها التربوية والأخلاقية، وقدمت ملحنة ومغناة حيث عبّر الأطفال بالحركات المدروسة المناسبة للكلام واللحن فنالت تقديراً وإعجاباً واسعين في مهرجانات المسرح المدرسي.
امتاز شعره منذ البداية بسهولة التناول اللغوي لقضايا كبرى، مثل قضية «الهوية السورية» التي شكلّت موضوعا رئيسا بين موضوعات شعره، ولاسيما قصائد ديوانيه الأول والثاني.
تتحول الطبيعة، ومكوناتها الدالة على الفرح والخصب، إلى رموز تتوهج بها مرامي الشعر في أعمال الشاعر أكرم مسوح، ولاسيما ديوانه الثالث: «من عينيك أبدأ»، وفي مقابل هيمنة الطبيعة على قصائده، ثمة انكشاف على المجتمع الإنساني يتحول بدوره إلى رموز مقابلة، تتفاعل مع نظائرها المتولدة من رحم الطبيعة الخصيب، للتعبير عن رؤية الشاعر الفلسفية نحو الوجود والعالم.
يجد هذا الانكشاف في ديوانه رموزه الأساسية، في شخصيات أدبية وثقافية واجتماعية عامة، ربطت الشاعر بكل منها علاقات شخصية حميمة، تأسست بها قصائد، ترى في كل منها شخصية من تلك الشخصيات، بعين الرائي، التألق على جناحي القصيدة إلى عوالم تقوم ظاهرياً على رصد المكونات الإنسانية والاجتماعية للشخصية، هادفة من وراء ذلك إلى تحويل أدوات رصدها أنموذجاً رمزياً ثرياً بدلالاته وهذا ما يفسّر لنا التشابه الجميل بين شخصيات متنوعة.
شخصيات وذكريات
عني الشاعر أكرم مسوح في ديوانه الأخير: «من عينيك.. أبدأ» بالحديث عن شخصيات من حماة، مبيناً في أربع قصائد مناسبة اختيار كل من هذه الشخصيات في العتبة النصية للقصيدة، ولعلّ ذلك استجابة طبيعية لموضوع الديوان في حب الوطن وألفة أهله، فكانت قصائده السابقة في هذه الشخصيات أنموذجاً سامياً في هذا الحب لأصدقاء الضفاف، مؤكداً كلية الحب للوطن، وعدم تجزئته بين حب للأهل وحب للأرض، فكلاهما يستمد جذوته من الآخر.
قدم الشاعر أكرم مسوح لقصيدته «مغناك ورد وطيب» بقوله: «بمناسبة تكريم الشاعر الصديق محمد عدنان قيطاز»، تبين هذه العتبة النصية مناسبة القصيدة، وهي تكريم الشاعر محمد عدنان قيطاز صاحب ديوان «اللهب الأخضر» وعدد من المؤلفات الشعرية والنقدية المهمة.
القصيدة مؤلفة من تسعة عشر بيتاً من بحر مجزوء الخفيف يقول في مطلعها:
مغناك ورد وطيب وما يبوح الحبيب
ينسج الشاعر مسوح لأخيه الشاعر قيطاز ثوباً من الصفات التي تجاوز فيها وسمه بالأديب والشاعر، إلى قيم أخرى تمنح الصداقة بعدها الإنساني الجميل من مثل الطيب والنور في قوله:
فأنت في العين نور وفي الفؤاد وجيب
«عدنان» أنت خميل غطت مداه الطيوب
وهو يجل في موضع آخر ما قدمه الشاعر والأديب قيطاز من قيمة فكرية وشعرية مشيراً بذلك إلى بحوثه في التراث العربي لا إلى شعره فحسب:
فإن صدحت بشعر فإنك العندليب
وفي بحوثك فكر يحار فيه اللبيب
ثم يذكِّر بعهود قديمة من الصداقة، منذ الشباب حتى المشيب، مع الإشارة إلى أن الشعراء مسوح وقيطاز ولطفي من جيل واحد من مواليد حماة عامي 1935-1936:
ذكرتني بعهود وقد عراني المشيب
«عدنان» كنت رفيقي مذ عانقتنا الدروب
تبقى المحبة شمساً عن أفقنا لا تغيب
ويختار صديقاً شاعراً آخر ليبث قصيدته وحبه بروح عالية إذ يقول في مقدمة قصيدته «تحية حب» وهي من مجزوء بحر الوافر: «في تكريم الشاعر محمد منذر لطفي في 28/11/2006 تعبيراً عن حبي له وإعجابي بشاعريته المتدفقة»
فقلبك مترف الخفقات سمح
شفافي الرؤى يندى بطهرك
إن إشارة الشاعر مسوح إلى سماحة قلب صديقه لطفي جديرة بالمناقشة، وهي صفة تتآلف مع صفات النقاء والوفاء وما شابه من صفات تغنى بها جميع الشعراء والأدباء الذين اهتموا بشخصية منذر لطفي وشعره في كتاباتهم، بمثل قول مسوح:
«أبا تمام» لا أخفيك سراً
بأن قد كشفت نقاء سرك
فقد كنت الوفي لنا جميعاً
بعسرك كنت معطاء ويسرك
وما فضلت ذاتك عن سواها
فحب الذات مرهون بغيرك
وما قصرت يوماً عن رفيق
أتاك ليستقي من عذب نهرك
وبعد أصدقائه الشعراء الذين رحلوا غادر الشاعر أكرم مسّوح، وقد أبقى إرثاً أدبياً شعرياً مهماً، وضمّن شعره وجدانيات لقامات ثقافية في حماة، ليسجل بذلك حالة أدبية رفيعة تقدم علاقات أدبية عالية.