انكفاءة أميركية ثانية عن «قسد»
| عبد المنعم علي عيسى
أعلنت واشنطن عن تأسيس «التحالف الدولي» لمحاربة «تنظيم الدولة الإسلامية» العام 2014، وما يقوله حديث الوثائق إن الأخيرة كانت تتوجس من أن يكون هذا الأخير منتميا لقماشة الفصائل المعارضة الإسلامية خشية أن يلعب «الانتماء الإيديولوجي» دورا سلبيا في تلك المواجهة، ولذا فقد حسمت أمرها في أن تكون «وحدات حماية الشعب» الكردية هي الأداة التي ستقوم بذلك الدور، وما أثبتته الأحداث اللاحقة هو أن حسابات الطرفين كانت في أغلبيتها مختلفة سواء أكان بالنسبة لمرحلة ما بعد انتهاء الحرب، أم بالنسبة للتصورات التي لا بد لها أن تخلف هذا الفعل الأخير، فالولايات المتحدة كانت قد أعلنت، وكررت ذلك مراراً، أنها ملتزمة بتقديم الدعم العسكري لـ«قسد» انطلاقاً من تصميمها على تحقيق هزيمة مستدامة لـ«تنظيم الدولة الإسلامية» الذي راحت خلاياه تنشط على مبدأ «الذئاب المنفردة» بعد خسارته لآخر بقعة جغرافية كان يسيطر عليها في الباغوز في آذار 2019، في حين كانت «قسد» ومعها أذرعها السياسية ترى أن الحفاظ على استمرارية ذلك الدعم لا بد أن يخلق أوضاعا جيوسياسية من شأنها أن تضطر واشنطن لإعلان دعمها السياسي للحالة التي تكرست في مناطق شرق الفرات السوري تحت مسمى مشروع «الإدارة الذاتية»، وفي الغضون راحت «قسد» تلعب، طورا، دور «الترغيب» عبر التركيز على «ديمقراطية» المشروع أملاً في تبني الأميركيين لعملية استنساخه، وطوراً آخر تمارس «الترهيب» عبر اللعب على ورقتي «مخيم الهول» و«سجن الصناعة» اللذين يضمان معتقلين، وعوائل معتقلين، من تنظيم «داعش»، والأمر كان غالبا ما يتكرر كلما وهن «عصب التحالف» أو هو أظهر ميلاً نحو تبني مواقف تشي بـ«نهاية اللعبة».
للمرة الثانية، في غضون أشهر، فشلت «الإدارة الذاتية» في الحصول على تأييد من الولايات المتحدة يقضي بموافقة الأخيرة على إجراء الانتخابات المحلية التي كان مقرراً لها، وفق إعلان «الإدارة»، أن تجرى شهر آب المنصرم، وللمرة الثانية أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، ماثيو ميلر، أن «الشروط اللازمة لا تبدو مستوفاة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة وشاملة في سورية»، الأمر الذي دفع بـ«الإدارة الذاتية» للقيام بحركة التفافية هي أقرب لجس النبض الأميركي من جديد، ففي أعقاب ذلك التصريح أعلنت «المفوضية العليا للانتخابات» التابعة لـ«الإدارة الذاتية» عن «تفويض لجان الانتخابات في المقاطعات التحضير لإقامة الانتخابات على مستوى كل مقاطعة»، لكن من دون تحديد موعد لتنفيذ ذلك الأمر، ما يعني أن المحاولة سوف تتحدد آفاقها تبعا للردود الأميركية والتركية والسورية عليها.
تسعى «الإدارة الذاتية» من وراء محاولاتها سابقة الذكر، والتي لن تنقطع بالتأكيد، إلى تحقيق عدة مرام، أولها تقديم نفسها، لداعمي المشروع الأميركي تحديداً، كسلطة «شرعية» جاءت عبر صناديق الاقتراع، وثانيها أن حصولها على الدعم الأميركي لخطوة كهذه، من شأنه أن يمهد الطريق لتوسعة دائرة «الاعتراف الدولي» بها، والثالث يكمن في محاولة إثبات «كفاءة» في إدارة منطقة تتسع مساحتها لنحو 25 ألف كم مربع، واللافت في الأمر هنا هو أن تلك الأهداف والمرامي تكاد تستنسخ الخطوات التي سار عليها إقليم شمال العراق بدءاً من مطلع العام 1991 ووصولاً إلى ربيع العام 2003، على الرغم من التباين الكبير للمعطيات بين التجربتين، ولعل هذا يشير إلى أن من أدار التجربة الأولى هو نفسه من يدير الثانية، الأمر الذي يطرح الكثير من إشارات الاستفهام حول هذه الأخيرة ويحيلها إلى بعد خارجي لا علاقة له بالبعد السوري.
من الراجح أن محاولات «الإدارة الذاتية» في هذا الاتجاه سوف تلقى «الصد» الأميركي عينه الذي لقيته في المرتين السابقتين، فواشنطن، أقله وفق المعطيات الراهنة، لا تريد استفزاز أنقرة بدرجة تدفع بهذه الأخيرة نحو مزيد من التفلت من تفاهماتها معها في سورية، وكذا فهي ترى أن خطوة من هذا النوع من شأنها أن تضيف نزاعاً كبيراً يضاف إلى كمّ النزاعات التي تملأ المنطقة بدءاً بغزة ولبنان ووصولاً إلى اليمن والعراق، ولربما كان هناك عامل إضافي آخر يضاف إلى تلك الاعتبارات وهو يدعو واشنطن إلى «تصليب» موقفها في هذا الاتجاه، حيث تتمايز «الإدارة الذاتية» حيال مسألة إجراء الانتخابات إلى تيارين اثنين، أولاهما يريد السير بالمغامرة إلى نهايتها أياً تكن المآلات التي يمكن أن تفضي إليها، وثانيهما يدعو إلى التريث بفعل المخاطر التي يمكن أن تتولد عنها، والراجح هو أن الثاني هو الذي ترجح كفته حتى الآن، ولا بد لواشنطن أن تأخذ تلك التوازنات بعين الاعتبار.
كاتب سوري