الهوية هل هي رأي شخصي لا يطوله التغيير؟ … من هنا أو من هناك هل يتحسر الإنسان على ما فارقه فنجح بعيداً عنه؟
| إسماعيل مروة
صراع الهوية والانتماء هو واحد من أخطر الصراعات التي تعاني منها مجتمعاتنا، والتي يمكن أن تبقي الخلاف متجذراً بين أبناء المجتمع الواحد، فمن هوية وطنية إلى قومية، إلى هوية عقدية، إلى هوية فكرية، إلى هوية سياسية، إلى هوية عشائرية وطائفية ومذهبية، تستمر أزمة الهوية التي أظهرت دون أدنى شك قدرتها على تفكيك المجتمعات، وإلغاء ما هو كائن لمصلحة ما يجب أن يكون من وجهة نظر الأقوياء الذين يتحكمون بالعالم، ويضيفون إليها هوية اللون والقومية، واللغة والجنوسة وغير ذلك..وقد شهدت العقود الأخيرة منذ بدء العولمة صراع هويات لم يتوقف، وما يزال موجوداً حتى يومنا هذا، وقد يرى بعضهم أن مشكلة الهوية هي مشكلة خاصة بنا، لكن الأمر غير ذلك، فهي في كل أرجاء المعمورة، وإن كانت عندنا أقوى وأعمق أثراً بسبب المستوى المعرفي والعلمي والتبعية، وتدني مستوى الوعي السياسي والاجتماعي على حد سواء.
الهوية بين العقل والعاطفة
وسائل التواصل ووسائل الإعلام أسهمت إسهاماً كبيراً في خلط مفهوم الهوية، فقد استطاعت الوسائل أن تكرس مفاهيم جديدة قديمة للهوية، فسمعنا بهويات لم تكن موجودة، وبانتماءات كانت نائمة واستيقظت مباشرة، فرجل لا يعرف مكان العبادة ولا يجيد العبادة استطاعت وسائل التواصل أن تجعله صاحب هوية يدافع عنها بكليته، ومن هنا نشأ التعصب، لأن التعصب ناتج عن الجهل بالأشياء التي يتحدث عنها الناس، والمشكلة الكبرى في البحث عن الهوية ليست عند المثقفين الكبار والمفكرين، بل عندما يصبح البحث عن هوية هاجساً للبسطاء الذين لا يملكون رؤية تساعدهم في تحقيق ذواتهم، وربما أمضى واحدهم عمره في البحث عن هويته وانتمائه، فلم يجد شيئاً!
الهوية أليست هي اللحظة والذات؟
الانتماء ليس رأياً ثابتاً، والهوية ليست ميزة شخصية، إنها أمر أكبر تعمل فيه جميع المؤشرات الفكرية والعقدية والسياسية والاجتماعية والسياسية.. وكثير من المفكرين الذين يتحسرون على هويات يشتاقونها ما كان لهم أن يعرفوا ويتركوا أثراً لو عاشوا فيما يحنون إليه!
إدوارد سعيد بين هنا وهناك
من حسن الطالع أن المهتمين يتبادلون بعض الفوائد التي يرونها ويرسلونها، وقد جائتني رسالة طريفة أعادتني إلى سيرة إدوارد سعيد، وتشظيه ما بين فلسطين ومصر، ومن ثم بين العروبة والغرب، وهناك كتب ومقالات كثيرة لإدوارد يتناول فيها العروبة والعربية بعلمية ومنطقية، وكتاباته الموسوعية في الاستشراق تحمل دلالات عميقة، وقد عبر العالم الكبير سعيد عن معاناته في الانتماء ما بين العرب والغرب، واستعار درويش في رثاء سعيد شيئاً من حيرة الانتماء والهوية كما عبر عنه سعيد في مقولاته: من هنا أو من هناك، وفي أحاديث عديدة مسجلة لسعيد وفي كتابات له عبر عن الانتماء والتشظي ما بين العرب والغرب، والإسلام والمسيحية، بل أيضاً في المسيحية وانتمائه فيها.. ومع كل هذا الحديث المؤلم عن الهوية، عاش سعيد عالماً كبيراً في اللغة والفكر، وكرّس حياته لآرائه، ودرّس في أرقى جامعات العالم، وحظي باحترام الزملاء والأساتذة والطلبة الذين عرفوه أوقرؤوه وإن خالفوه، وأبحاثه كانت مثار إعجاب واهتمام وعناية في الغرب الذي أطلق فيه مؤلفاته وصيحاته، بل واعتراضاته على العالم الغربي، وفي البلاد العربية التي تناول مشكلاتها مع الاستشراق نال إدوارد سعيد من النقد، والنقد اللاذع، والهجوم أضعاف ما ناله المستشرقون الخصوم من النقاد العرب، ومن دارسي العربية، ومن شاء فليرجع إلى عدد من الدوريات المتخصصة والكتب التي كانت آراء سعيد في مجالها، فمن هنا أو من هناك، عن أي شيء يتحدث إدوار سعيد ومحمود درويش؟ وماذا تعني الهوية أمام المنجز؟ إن كانت الحياة مجرد لحظة، فإن الهوية لا تتجاوز أن تكون عبوراً وجواز سفر للحظة.
والمبدعون الغرباء
كان أحمد زويل العالم الكبير الذي انطلق من جامعة المنصورة إلى الولايات المتحدة، ويصف مرحلته في مصر بتكدس الأساتذة على مكاتب مشتركة، وتخصيصه في الولايات المتحدة بمخبر وفريق عمل كبير ليصل إلى اكتشافات علمية كبيرة، والى نظرية قلبت الموازين العلمية في العالم أجمع، ونال جائزة نوبل في الفيزياء، وأعادته أزمة الهوية والانتماء إلى بلاده العربية، وحضر إلى مصر وحاضر وظهر في برامج إعلامية، وأبدى رغبته في أن ينشئ مراكز أبحاث علمية في البلاد العربية، وزار عدداً من الدول العربية، وزاد من انتمائه بأن أسرته عربية وسورية، فزوجته ابنة العالم اللغوي الجليل الراحل الدكتور شاكر الفحام، وأزمة الهوية سرّعت في نهاية حياة زويل العالم الكبير وصاحب نوبل، الذي ما لبث حين عاد إلى الولايات المتحدة أن رحل عن هذه الدنيا، وأمام أزمة الهوية سمح الإعلام العربي لنفسه أن يشوه صورة العالم بعد رحيله فلم يتناول الإعلام خيبة أمله وإخفاقه في إنجاز مركز بحثي عربي، وإنما تم بذل كل الجهود لإظهاره في صورة الخائن الذي لا انتماء لديه، والذين عملوا على ذلك إعلاميون لا يعرفهم واحد.. فبين هنا أو هناك ماذا كانت تعني الهوية والانتماء عند هذا العالم الجليل الراحل؟
وللعمارة دورها
وها نحن ننتقل بالمصادفة من فلسطين إلى مصر، إلى العراق، وقد أرسلت لي عبارات جدّ مؤلمة من مذكرات المهندسة المعمارية زها حديد وهي عراقية الأصل، غربية المنشأ والتعلم والحياة، أذكر منذ أكثر من عشرين عاماً أعددت مادة فيها إشارات إلى منجزات زها حديد المعمارية العراقية الأصل التي استطاعت أن تكون من أهم مهندسي العمارة في العصر الحديث على مستوى العالم، لكن العالم العربي لا يعرفها، ولم يقدرها، ولم يدرس تجربتها العلمية والمعمارية، وفي الوقت نفسه أعطاها العالم قيمتها، لكنها مع ذلك في مذكراتها تظهر ارتباطها الوجداني والروحي مع العراق، فتتحدث عنه وهي التي تحدد أن 96 بالمئة من حياتها كانت في الغرب، ولم تزر العراق ولا تعرف عنه شيئاً، لكنها عندما تسمع خبراً عن خرابه في وسائل الإعلام تشعر أن أمها ماتت! يا لهذه الرائعة التي حملت اسمها العربي العراقي وأنجزت أهم التصاميم المعمارية العالمية، لكن العراق كان هاجسها الذي ارتبطت به ارتباطاً روحانياً وفيزيولوجياً، فتشعر لمجرد خبر سيئ عن دماره في الأخبار أن أمها ماتت!
هي تألم وتتألم، ولكن كم من المعاريين العرب يعرف حديد، هل أعطوها حقها من الدراسات؟ أم إننا اكتفينا بالحديث عن اسمها وذكرها عند لحظة المباهاة والفخر؟
ماذا تعني الهوية لهذه القامة والقيمة، أليست هي الهوية، لو لم تكن هي الهوية ألا يمكن أن تعيش وتغادر دون أي مشكلة؟ ألا يوجد من العرب من عاش في الغرب 100 بالمئة ولكنه لا يعتني بفرح أو حزن وطنه؟ ألا يوجد من لا يعنيه دماره؟ ألا يوجد من يسعى لدماره؟ «يجذبني لها كلما مرّ ذكرها في ممرات العمر، وكلما أذاعوا شراً بها في نشرات الخراب. يفرّ قلبي كالتي ماتت أمها».
الإنجاز هو الهوية والانتماء للعبور إلى البقاء.
انتماء الشاعر والناقد
وتمشي المصادفة من العراق إلى سورية لتصل إلى أدونيس الكبير شعراً ونقداً وفكراً ونقاشاً، وأزمة الهوية كما يحللها كثيرون عند أدونيس أكبر بكثير، وهي ذات امتدادات كما يحللها النقاد والمتحذلقون الذين يؤمنون بالحرية لأنفسهم، ويفسرونها للآخرين على أنها أزمة انتماء وربما وصلت إلى الاتهام بالهوية والانتماء والمنجز.
اختار أدونيس اسمه، ولم ينكر اسمه الأصلي الذي أطلق عليه، اختار اسماً يناسبه، ويراه مناسباً له، هبه اسماً عقدياً، اسماً أدبياً، اسماً مستعاراً يناسب أحلام الشاب، ولو عدنا إلى الدراسات الأولى حوله فسنجد عديدين وقفوا عند الاسم ودلالته وأزمة الهوية عند أدونيس كما رأوها، بينما كان أدونيس يتحرر فكرياً وينطلق في آفاق بعيدة على كل مستوى.
وبعد أن سجنه القومي الاجتماعي في سورية غادر ليبدأ رحلة أدبية وسياسية وفكرية ونقدية، كانت أشهر علامات انطلاقتها مجلة «شعر» مع مجموعته التي شكلها الشاعر يوسف الخال، وهنا عانى الخال وأدونيس و«شعر» مسألة الهوية والتغريب والانتماء والولاء، وكانت السجالات كثيرة للغاية حول «شعر» ومهمتها التي وصلت إلى درجة وصفها بالتدميرية للتراث والشعر، وكان حرياً أن تتم المناقشة العلمية الهادئة، وليثبت ما هو جدير بالبقاء.
وفي عدد من الدراسات والكتب التي تناولت تجربة أدونيس، كتب بعضهم، عن عدم معرفة الشاعر اللبناني أدونيس، ولم يتم التصحيح من الكاتب أو القارئ، بل بدأ تصويب الأسهم تجاه أدونيس بأنه أنكر هويته وكأنه هو من أملى هويته!
ومنذ خمسينيات القرن العشرين إلى اليوم لا يتوقف أدونيس عن الدعوة إلى النهضة العربية وإلى ضرورة مراجعة الكثير من النصوص التراثية والدينية للوصول إلى الفهم السليم، وفي كل يوم يجابه في قضية الانتماء والهوية، وأدونيس من دمشق إلى بيروت إلى الصين واليابان وباريس والإسكندرية والولايات المتحدة بقي ذلك الذي يبحث عن هنا وهناك حسب تعبير محمود درويش من أجل إنقاذ هويته، ولم يدرك كثيرون أن ما دعا إليه أدونيس قبل سبعين عاماً وما يزال كان كفيلاً بتحديد يد الهوية في إطار الهويات العديدة التي تتوزع الإنسان!
عن أي هوية كان يبحث أدونيس؟ هل بحث عن هوية وطنية أو عقدية؟ هل بحث عن هوية ثقافية وفكرية؟ هل كان يبحث عن هوية جمعية ترتكز إلى الهوية الأصلية التي انطلق منها في إطار فهم صحيح قادر على أن يكون منافساً في عالم لم تعد العشائرية والقبلية والطائفية والمذهبية قادرة على الوقوف وحدها؟ هل استطاع رغم كل الجهود الإفلات من الهوية التي تفرض نفسها دون هوادة؟
الهوية والانتماء حالة يتلطى وراءها الإنسان لتسويغ عجزه حيناً، وللحنين والراحة بعد رحلة طويلة من التعب، وربما كان عجزه في أن يكون هنا وهناك وراء الكثير من الحنين والكلام الذي قد يفسد رحلته، وقد يعطي انطباعات سيئة للقادمين، فيثبط عزائمهم في أن يكونوا رسل معرفة في كل مكان يحلون فيه.