استشهد حسن.. لكن نصر اللـه آت لا محالة
| عبد المنعم علي عيسى
ما من شك في أن غياب الأمين العام لحزب اللـه اللبناني حسن نصر اللـه عن المشهد السياسي في هذه المرحلة فعل من شأنه خلق فراغ في لوحة متطاولة، يبدأ ضلعها الأبعد عند أقصى اليمن، ثم يعرج ضلعها الآخر نحو العراق ماراً بسورية ولبنان، لتتقاطع الخطوط عند فلسطين المكلومة بألف جرح وجرح، فالرجل كان صاحب كاريزما من النوع الخاص، ناهيك عن إيمانه الذي لا يعتريه أدنى شك بعدالة قضيته وثقته بانتصارها المحتوم في النهاية، الأمر الذي دعا العديد من كبريات الصحف العالمية إلى تصنيفه كأحد أبرز الشخصيات المؤثرة في الشرق الأوسط، بل في العالمين العربي والإسلامي على حد سواء، والمؤكد هو أن في الأمر ما يدعو إليه، إذ لطالما كان من القلة في التاريخ التي تمنت، فسارت وسعت، حثيثة الخطوات نحو تحقيق أمانيها التي نالتها، لكن ذلك لا يعني احتمالية أن يؤدي الفعل إلى ضعف الدور المتنامي لحزبه والذي بات رقماً صعباً في معادلات الإقليم منذ حرب تموز 2006، التي أدخلت كيان الاحتلال في مزيج من «العطب والكسل» الوظيفيين، ولربما ترك ذلك جرحاً غائراً في هذا الكيان لم يلبث أن تمظهر عند رئيس حكومته بنيامين نتنياهو الذي علق على الحدث بقوله: «باغتيال نصر اللـه نكون قد صفينا حساباتنا».
من يطلع على تركيبة وبنيان حزب اللـه سيستنتج أنه لم يكن في أي يوم من الأيام من دون قيادة رديفة، وهي جاهزة على الدوام، لسد الثغرات حال وقوعها، لذا فإن من المؤكد أن الضربات المتتالية التي تلقاها الحزب على مدى الشهرين الماضيين لن تكون لها تأثيرات كبرى في بنيان الحزب ودوره، وجل تأثيراتها سوف تقتصر على الجانب المعنوي من دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية هذه الأخيرة، والآثار التي يمكن أن تنجم عنها، ومن دون أن يعني ذلك تجاهل الثغرات التي كشفتها تلك الضربات، صحيح أن هذي الثغرات قد جاءت في سياق الفجوة التقنية الكبيرة بين الحزب وكيان الاحتلال، وهذا ما ينذر بنوع من «الفوات التكنولوجي» الذي بات يمثل تحدياً كبيراً للعرب كلهم، في تكرار لـ«الفوات التاريخي» الذي تحدث عنه المفكر المغربي عبد اللـه العروي منذ ستينيات القرن الماضي، لكن المؤكد هو أن تلك الفجوة ما كان لها أن تحقق ما حققته لولا تضافر عوامل أخرى قد يصعب البت بها الآن.
اليوم، وبعد كل ما حدث في غزة ولبنان هناك سؤال كبير يقول: كيف سيكون العالم بعد كل هذا التوحش الإسرائيلي؟ ثم كيف سيكون مسار هذا الغرب الذي شرعن وأيد ودعم، إراقة كل هذي الدماء؟ وإذا ما كانت تل أبيب تعتقد أن ما جرى هو «نصر» كبير، فهي من دون شك واهمة، فالصراع في النهاية، وأيا تكن مخرجاته التي وصل إليها، هو صراع إرادات، وما لم تنكسر هذه الإرادة عند طرف من الأطراف فإن هذا يعني أن الصراع مستمر، وإن تغيرت الأساليب والأسماء، واستمراره هو حتمية تفرضها استمرارية الكينونة الإسرائيلية التي ما انفكت تصدّر لهذا العالم نهجاً بربرياً فاق كل الحدود والتصورات.
اليوم يبدو النهج الإسرائيلي، تحت إدارة نتنياهو، وكأنه يرمز إلى سيطرة أصحاب السياسات المباشرة، تلك التي تحقق دوياً إعلامياً ولربما تسندها في ذلك الفجوة التكنولوجية سابقة الذكر، على حساب أصحاب الرؤى البعيدة، من قماشة المؤسسين الأوائل للكيان، والفعل من حيث النتيجة يفقد الكيان والمشروع زخمه ومعنوياته الداخلية جنباً إلى جنب الدعم الخارجي الذي بات يتآكل على وقع احتياج هؤلاء لاستسقاء الدم، والمزيد منه لا يدفع سوى إلى طلب المزيد، والراجح هنا أن التطرف الذي يبديه نتنياهو على ضفاف الصراع كلها، ليس مرده، فقط، إلى حسابات المصالح والتوازنات الداخلية، بل يعود في جزء منه إلى نزعة تشاؤمية كان قد عبر عنها في حديث له أمام نخب وساسة التقاهم ربيع العام 2018، وفي ذلك اللقاء وعد جلساءه بتغيير القاعدة الشهيرة في «التاريخ العبري» التي تقول: إن «لا دولة لليهود تجاوز عمرها ثمانية عقود».
غياب حسن نصر اللـه لن يكون سوى محطة في هذا الصراع، والمحطة لن تمحى بمرور الوقت، فصاحبها ستذكره حافظة الزمان الأرحب، لأنه صاغ إحدى جواهرها التي لا تستطيع عوامل الطبيعة تغيير الكثير فيها، ومن نافل القول إن هذا العدو الذي أراد أن يقول لنا إنه يعرف أدق التفاصيل عنها، لا بد أن يعرف أن الذات الجماعية لشعوب المنطقة لا تنكسر، وهويتها صمدت أمام ثلاثة قرون من الحملات الصليبية وأمام أربعة قرون من «التتريك»، ومع ذلك فقد أنتجت، وستظل تنتج، بنى وقيادات، أيقظت في شعوبها عوامل الصمود والانتقال منه إلى مراحل أعلى، وأعلى، على طريق ترسيخ الانتماء والهوية التي يجب على العالم أن يعرفنا بها.
كاتب سوري