السيد وثقافة المقاومة
| بقلم: أ. د. بثينة شعبان
نعيش في عصر يهلل به مسؤولون غربيون بعمليات قتل واغتيال لقامات كل مشروعها هو العيش بكرامة ورفع الظلم عن المظلومين وإسناد شعب أصيل يرزح تحت احتلال غاشم لا يعرف سوى الإبادة والإهانة والإذلال لأعرق شعب وأقدس مقدسات.
يقف الإرهابيون على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة ليتفاخروا بإرهابهم وأدوات قتلهم وجرائمهم التي يجب أن يندى لها جبين البشرية، معتقدين أنهم يحققون انتصارات في الوقت الذي ينحدرون فيه إلى الدرك الأسفل من أي مستوى إنساني أو أخلاقي.
على مدى أربعين عاماً أسس سيد المقاومة حزباً وحركة مقاوِمة تعيد للمستضعفين شعورهم بالعزة والكرامة وبأسهم في حماية بلدانهم بعد أن اجتاح الكيان الغاصب بيروت والجنوب في عام ١٩٨٢ وارتكب أبشع المجازر بحقّ المدنيين وحرق المكتبات والمراكز الثقافية واغتال الكتاب والشعراء والمناضلين، فأخذ سيد المقاومة على عاتقه بناء حركة مقاوِمة، لبنة إثر لبنة، بناءً أخلاقياً ومجتمعياً وسياسياً، يشكل النقيض الأبرز لكل إرهاب وهمجية الصهاينة. وعمل نصر اللـه ومنذ اليوم الأول على نشر ثقافة المقاومة وتنشئة أجيالها على الخلق الرفيع الملتزم بروح القرآن الكريم وأخلاق الرسل والصديقين والصالحين، وأصبح من خلال عمله وتربيته لكوادره هو القدوة والمثل وهو أيقونة ثقافة المقاومة الملتزمة والمسؤولة.
ونتيجة لهذا العمل الإستراتيجي العظيم تمكّن حزب اللـه من تحرير الجنوب من دنس العدو الإسرائيلي عام 2000 فكانت هذه هي المرة الأولى التي يدحر بها هذا الكيان الغاصب من أرض احتلها رغم عدم التكافؤ في ميزان القوى، ولكن إيمان المقاومين البواسل بحقّهم وأرضهم وإيثارهم تراب الأرض على أنفسهم قاد إلى النصر والتحرير.
عاد الكيان الغاصب لشنّ عدوان على لبنان عام 2006 غير مرتدع بما شهده عام 2000 فقط، ليتم دحره مرة أخرى وتحقيق نصر تموز المؤزر، فاستمرت مسيرة الحزب وقائده دفاعاً عن المعتدى عليهم في سورية وفلسطين، وفق منظومة قيمية أخلاقية إنسانية وتحررية لا تخشى في اللـه لومة لائم، إلى أن بدأ العدوان الغاصب والسافر على الـشعب الفلسطيني في غزة والضفة في تشرين الأول 2023 فشكل الحزب وقائده جبهة إسناد دفاعاً عن المظلومين والمعتدى عليهم.
إذا كان هذا العدوّ يظنّ كما يدعي أنه حقّق نصراً في المنطقة وأنه استباح الإقليم بعد اغتيال سيد المقاومة، حسن نصر الله، ورفاقه فهو واهم، لأن ثقافة المقاومة التي أرساها نصر اللـه والنهج والمدرسة التي أسسها، لها أتباع في المنطقة وفي كل بقاع الأرض ولن تهدأ ولن تهادن ولن تساوم على حقوق، ولن تستكين لاحتلال أو استيطان أو إذلال ومهانة.
هؤلاء الصهاينة والمتصهينون لا يعلمون معنى الانتماء للأرض ولثقافة المقاوِمة، ولا يدركون ما معنى الإيثار والتضحية لأنهم أقلّ بكثير من أن يدركوا هذه المعاني السامية، وكما أن القتلة اندثروا ولم يبقَ لهم أثر في كل تاريخ ديني أو سياسي، وبقيت أسماء ومراقد المدافعين عن الحقّ شواهد يؤمّها المؤمنون من كل أصقاع الأرض ويستلهمون تجربتها وصبرها وتضحياتها وفداءها، فإن روح نصر اللـه ودماءه الطاهرة ستُزكي مسار المقاومة وستشدّ من عضد المقاوِمين المخلصين، وستقلب الموازين ضدّ القتلة والطغاة والمعتدين، وهذا هو مسار التاريخ كما أنه وعد اللـه عز وجل: «إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد».
أمّا دعم الغرب لآلة الإرهاب الصهيوني واعتزاز، مستشار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر وأمثاله، بجرائم هذا الكيان، فهو البرهان الساطع القاطع على سقوط الغرب الأخلاقي والقيمي، وعلى أنه لا مستقبل لهذا الغرب مهما عتت قوته العسكرية والمادية، ومهما طغى اليوم وتجبّر فإن نهايته محسومة، إذ لا يمكن لمنظومة كهذه مجرّدة من الأخلاق والقيم والإنسانية أن تستمرّ في مكان مرموق على السلم السياسي والبشري والإنساني. إن هؤلاء الذين يهلّلون للقتل الغادر الخسيس لا يدركون أن ما يقترفونه سيرتدّ وبالاً عليهم و«سيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون».
مصائر الشعوب لا تقاس بالأيام ولا بالأشهر ولا بالسنوات؛ فهي أحياناً نتاج حقب من تراكم العمل الدؤوب واستمراريته، ولذلك فإن النشوة التي عبّر عنها الإعلام الصهيوني والغربي باغتيال سيد المقاومة ورفاقه دليل على أنهم طارئون على هذه الأرض لا يعرفون للتاريخ معنى ولا لمساره ذاكرة يتعلمون منها أو يقتدون بها، أمّا سيد المقاومة فهو سليل حضارة وعراقة أبطال قضوا منذ قرون في سبيل إعلاء كلمة الحقّ وما زالت سيرهم تحرّك الملايين لوجهتهم من كلّ أصقاع الأرض في حين لا يعلم أحد لقتلتهم قبراً أو مكاناً أو شاهداً على أنه مرّ يوماً من هنا أو كان على هذه الأرض في حين من الزمن.
هذا الخريف الذي يظنه الأعداء نهاية المطاف، سيثمر عزاً ونصراً واستمراراً مؤزّراً لمقاومة تحرّر المقدسات وتحرّر الأرض والإنسان وتنشر ضياءها وإنسانيتها ليس على المنطقة فحسب وإنما على كلّ الشعوب المستضعفة والطامحة للحرية والكرامة، وهذا بالذات أخشى ما يخشاه الإرهابيون والدائرون في فلكهم، والعاملون على تدمير الأخلاق والأسرة وكلّ الروابط والقيم الإنسانية التي هي مصدر القوّة والأمان لكلّ إنسان.
من هنا فإن رسالة المقاومة وثقافة المقاومة لا تعمل من أجل نصر عسكري وتحرير الأرض فقط، وإنما من أجل نصر على كلّ أنواع التشويه الذي يحاولون فرضه على الأسرة الإنسانية ولا شكّ أن العاقبة للمدافعين عن القيم الإنسانية التحريرية البنّاءة.
خلال أشهر من إسناد حزب اللـه لشعب فلسطين لم يكن العدوّ الإسرائيلي يخشى صواريخ حزب اللـه تتساقط على شمال فلسطين فقط، وإنما يخشى أيضاً ثقافة الحياة والتحرير والبناء ويخشى حتى من وجود العرب على هذه الأرض لأن مجرّد وجودهم يعتبره تهديداً لكيانه الغاصب الطارئ على الأرض والمنطقة، إلا أن أبناء هذه الأرض التي سقوها بدمائهم على مدى قرون ضدّ كلّ الغزاة والمعتدين وأنتجوا فيها حضارات وعلوماً وقيماً وإنجازات تشكّل معيناً ثرّاً للبشرية، لن يهنوا ولن يستكينوا إلا بتحقيق وجودهم كما يرتضونه ويعشقونه عزّاً وكرامة وكبرياء.