فضيلة الصمت
| عصام داري
لم أجد لغة في العالم للتعبير عن مشاعر الإنسان خيراً من لغة الصمت، فهي تختصر كل الكلام، مع أنها لا تنطق بحرف واحد.
قد نلوذ بالصمت في حالات كثيرة وخاصة عندما يداهمنا الحزن، فنشعر حينها بأن موجة الكآبة سيطرت علينا، مع معرفتنا بأننا بعيدون عن الكآبة، لكن المشكلة أن الحزن يترافق مع الكآبة بشكل شبه دائم.
ليس غريباً أن نختار الصمت في أوقات الحزن، لكن الغريب أن الصمت يأتي في لحظات الفرح والسعادة، مع أنها لحظات مفعمة بالحياة والنشاط، وتجلب الصخب والحبور والبهجة، ومع ذلك نلوذ بالصمت، ربما لأن هذه اللحظات صارت نادرة في حياتنا!
عادة ألتزم الصمت في أوقات الحزن، وأركن إلى ما يشبه العزلة الإجبارية، حتى لو كنت وسط حشد كبير من الناس، وخاصة عندما يكون الحزن عميقاً، حينها نرى أن الصمت بئر ليس له قرار، ندفن فيه مشاعرنا ودموعنا وضعفنا الإنساني أمام المآسي والكوارث والمصائب التي تصيبنا كأفراد وجماعات ومجتمعات.
يقولون: إن الصمت لغة العظماء، وإن الصمت هو الصديق الوحيد الذي لن يخونك أبداً، هذا صحيح، لأن الكلام قد يجلب الويلات لصاحبه.
شاعرنا الكبير نزار قباني له رأي في الصمت، فهو يقول:
فإذا وقفت أمام حسنك صامتاً.. فالصمت في حرم الجمال جمال
هنا الأمر مختلف قليلاً، فالصمت في هذه الحال تعبير عن الدهشة والانبهار أمام حسن صبية فائقة الجمال، عندها يعجز اللسان عن التعبير، وتخون الأبجدية صاحب الدهشة من فتاة هاربة من قصص ألف ليلة وليلة والخيال.
الصمت فضيلة من الفضائل، والكلام يدخلنا في متاهات وزواريب كنا في غنى عنها، في هذه الحال يكون الصمت من فضة وذهب، وليس كما يقول المثل الدارج: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ومن الأحجار الكريمة أيضاً».
لا أدّعي أنني من أنصار الصمت دائماً، فأنا أمتهن الكلام منذ نصف قرن، وأستخدم الأبجدية لأكتب وأصرخ بأعلى صوتي في وجه كل ما هو غلط وشاذ وفاسد، فمهنتي ليست الصمت، بل الكلام، فالصمت لا يليق بي، لكن الحزن يقودني عنوة إلى بيت طاعة الصمت.
من دون الدخول في تفصيلات، ومن دون سؤال وجواب، أشعر أنني هذه الأيام بحاجة ماسة للصمت والانزواء في ركن قصي بعيداً عن الضوضاء والصخب ووجع الرأس، فأنا متعب وأحتاج -مثلي مثل غيري- إلى استراحة من هموم بالجملة تحاصرني على مدار الساعة، هموم صغيرة، وهموم بحجم وطن، وما بين هذه وتلك تصبح الاستراحة ضرورة قصوى، ويصبح الصمت نوعاً من الدواء.
ولأن الحكمة تقول: إن الصمت أكثر فصاحة من الكلمات، أرجو أن يصل صوت صمتي إلى مسامعكم، وأن يكون هذا الصمت فصيحاً يتقن جميع لغات الأرض، بما فيها لغة العيون والأحاسيس والمشاعر.
المؤسف أننا وصلنا إلى عصر لا يعرف معنى الإحساس والشعور، ولا يتقن إلا القتل وسحق الورود والأزاهير، ولا نملك خيارات كثيرة، فالقطار لا يرجع إلى الخلف ولا خطوة واحدة، وقد أصبحنا عالقين في هذا العصر!.