مسعى لولادة «الشرق الأوسط الجديد».. من جديد
| عبد المنعم علي عيسى
بعد ساعات من بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان فجر يوم 12 تموز 2006 خرجت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك كوندليزا رايس لتقول: «إن آلام هذه الحرب هي نتاج الولادة القاسية للشرق الأوسط الجديد»، واللافت في هذا الأمر هو أن رايس كانت قد استخدمت المصطلح نفسه الذي استخدمه رئيس وزراء إسرائيل الأسبق شمعون بيريز عنواناً لكتابه الصادر في العام 1996، كانت تلك إشارة تقول إن الولايات المتحدة قد تبنت النظرة الإسرائيلية القائلة بوجوب إعادة ترتيب البيت الشرق أوسطي من جديد، ولذا فقد أوكلت المهمة للذراع التي يمتلكها أصحاب تلك النظرة لتنفيذها بقوة الحديد والنار، وما جرى هو أن «القابلة» لم تنجح في إنقاذ الجنين الذي مات في رحم أمه يوم ذاك، واللافت أيضاً أن ذلك المصطلح جرى استخدامه في كل المحطات التي شهدتها المنطقة بعد ذلك التاريخ على كثرتها.
قذفت عملية «طوفان الأقصى» التي أطلقتها حركة حماس فجر الـ7 من تشرين الأول الماضي برزمة من المعطيات دفعت بأصحاب «الفكرة» نحو إعادة تعويمها من جديد انطلاقا من حالة التشبيك الإقليمي التي أفرزتها تلك الحرب، لكن النظرة تركزت، وبشكل كبير، على الجبهة اللبنانية التي يلعب فيها حزب اللـه دوراً محورياً كبيراً من النوع الذي يشكل «سداً» أمام عملية «التعويم» السابقة الذكر، والمؤكد أن عمليات الإسناد التي قام بها الحزب، وعلى مدى عام كامل، للمقاومة الفلسطينية في غزة لم تكن هي السبب البعيد للتطورات التي شهدها لبنان على امتداد الشهرين الماضيين، وإن كانت قد مثلت سبباً مباشراً هو أقرب للذريعة، فقرار ضرب حزب اللـه كان متخذاً منذ 14 آب 2006، أي اليوم الذي سرى فيه مفعول وقف إطلاق النار بموجب القرار الصادر عن مجلس الأمن ذي الرقم 1701، لكن التوقيت لم يكن محدداً، ولا يبدو أن الظروف الإسرائيلية كانت مناسبة على امتداد تلك الفترة، حتى إذا تمايزت المعطيات، وموازين القوى ومن بينها الفجوة التكنولوجية وظروف الجبهة الداخلية في إسرائيل، كان القرار بضرورة استثمار الفرصة، الأمر الذي يوضحه تصريح رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي قبل أيام الذي قال فيه «تل أبيب انتظرت هذه اللحظة منذ سنوات».
عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الخطاب الذي ألقاه أمام الأمم المتحدة يوم 27 أيلول المنصرم لرؤية مفادها أن العائق الأكبر أمام الوصول إلى «شرق أوسط مزدهر» هو «إيران وأذرعها في المنطقة»، وفي مقطع آخر من خطابه قال: «ها نحن نربح الحرب»، الأمر الذي أراد من خلاله الرد على دعوات الداخل والخارج على حد سواء القائلة بضرورة وقف إطلاق النار في غزة، إذ لطالما كان من الطبيعي، لذلك القول، أن يرمي بتساؤل لدى هؤلاء يقول: إذا ما كانت الأمور تسير باتجاه ربح الحرب، فلماذا يجب إيقافها؟ ولعل المرمى الأبعد الذي هدف منه نتنياهو عبر هذا الطرح الأخير هو إعادة تقديم «أوراق اعتماده» للولايات المتحدة وللغرب عموماً كذراع قادرة على فرض المصالح والرؤى الغربية بعدما ساورت هذين الأخيرين شكوك حول قدرة تلك الذراع عبر مخرجات تموز 2006 وتشرين الأول 2023، ومن المؤكد هو أن الغرب تقبل من جديد أوراق اعتماد الأخير الأمر الذي يفسر ذهابه لرمي كل دعوات الرئيس الأميركي لوقف إطلاق النار في غزة، وكذا لرمي البيان الفرنسي الأميركي الداعي للتهدئة في لبنان، وراء ظهره.
وفق المعطيات الراهنة يجد نتنياهو نفسه أمام فرصة كبيرة لقلب المعادلات القائمة في المنطقة، وهو يستند في ذاك إلى معطيين على درجة عالية من الأهمية، أولاهما داخلي إذ أظهر استطلاع للرأي كانت قد نشرته صحيفة «معاريف» قبل أيام أن 67 بالمئة من الإسرائيليين يؤيدون الهجوم على لبنان، وثانيهما خارجي يتمثل في التغيير الحاصل على الرؤية الغربية حيال «الذراع» الإسرائيلية، وبذا يمكن الترجيح أن الحرب على لبنان ستكون شبه مؤكدة ما لم تحدث معجزة كبرى، أو أن ترمي إيران بثقلها كاملاً لمنع قيام تلك الحرب، وما يجعل الترجيح فعلاً مسوغاً هو أن التقدير الإستراتيجي الإسرائيلي الراهن يقول إن توقف الحرب عند الحدود التي وصلت إليها سيكون انتصاراً لحزب اللـه من المنظور الإستراتيجي بعيد المدى، لأن الحزب سيكون قد نجح في مهمته التي أعلنها يوم 8 تشرين الأول وهي إسناد المقاومة في غزة وإطالتها لعام كامل كانت التداعيات فيه على بنيان الاحتلال أكثر من أن تعد أو تحصى، أما في حال استمرارها فإن للفعل فائدتين اثنتين، الأولى استعادة النسيج الإسرائيلي للحمته من جديد بعد أن تضعضعت بفعل العدوان على غزة، والثانية استعادة التعاطف الدولي الذي افتقدته إسرائيل كثيراً إبان حرب الإبادة التي كانت تستهدف الشعب الفلسطيني برمته من دون استثناء.
الراجح أن رؤية نتنياهو تقول بوجود فرصة مناسبة لولادة «الشرق الأوسط الجديد» من جديد، لكن ما يغيب عن تلك الحسابات، كما يبدو، هو رفض الذات الجماعية لشعوب المنطقة التي تقف سداً رادعاً لولادة من ذلك النوع ترمي أساسا لانصهار كيان غاصب في نسيج منطقة لا تزال قواه ترى نفسها على أنها مهد الحضارات ومهد السلام وإن دفعت عوامل عدة لابتعادها عن حمل راية ذينك المهدين راهناً.
كاتب سوري