طوفان الأقصى يكمل عامه الأول
| علي عدنان إبراهيم
قبل عام فقط كان اسم فلسطين قد بدأ يضمحل ويتلاشى من عناوين الأخبار وبات ذكرها مقسوماً بين الضفة الغربية وغزة والقدس، فيقال إن مستوطنين اقتحموا الأقصى بحماية شرطة الاحتلال أو تم اعتقال فلسطيني في الضفة أو إن غرة تطالب برفع الحصار عنها، لكن القضية الفلسطينية الكلية غابت تماماً خصوصاً مع انشغال الداعمين الحقيقيين بمشاكلهم مع الإرهاب والعقوبات الأميركية والأزمات المعيشية، وطغى الحدث الروسي الأوكراني واقتراب طيف الحرب العالمية على كل حدث، ما فتح المجال واسعاً أمام الحكومة اليمينية المتطرفة في تل أبيب بقيادة بنيامين نتنياهو المحاصر بتهم الفساد، للتخطيط لنسف القضية عن بكرة أبيها معتمدة على عدة مسارات متوازية أولها قطار التطبيع مع الدول العربية الذي قطع خلال سنوات قليلة فقط محطات هامة واقترب من إحدى محطاته التاريخية المتمثل بالمملكة العربية السعودية حسب تصريحات واشنطن التي رعت اتفاقيات «أبراهام»، وثانيها تجفيف منابع تمويل حماس في محاولة لسحب البساط من تحتها وتأليب الناس عليها خصوصاً أن المعاناة في غزة كانت تتفاقم جراء الحصار، والبطالة بارتفاع مستمر، لتأتي تصفية قاداتها وتفكيك ذراعها العسكرية في المرحلة التالية، فاستبقت المقاومة ذلك كله بالقرار المفاجئ بإطلاق «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول الماضي ليعيد القضية الفلسطينية ليس لوعي الشعوب العربية فقط بل للوعي العالمي عموماً ويقلب الموازين في المنطقة بشكل لا يدع مجالاً للشك أن ما كان قبل السابع من تشرين الأول لن يشابه ما بعده إطلاقاً ليس لناحية الصراع العربي الإسرائيلي فقط بل لوجه المنطقة والعالم.
سياسياً حرك «طوفان الأقصى» والمشاهد القادمة من غزة ومنذ الأيام الأولى لبدء الغارات الإسرائيلية الهمجي، مشاعر العالم بينما لم تتمكن إسرائيل من نشر روايتها حول «إرهاب حماس» بحق الأطفال، وما ذكره الرئيس الأميركي الصهيوني جو بايدن وتراجع عنه، حول قطع الرؤوس في غلاف غزة، وملأت المظاهرات وما زالت، شوارع العواصم الأوروبية والجامعات الأميركية التي ظهرت بشكل لم تظهر به منذ حرب فيتنام، وباتت إسرائيل أكثر عزلة في العالم، على حين جرّ الطوفان قطار الاعتراف بالدولة الفلسطينية التي بدأته كل من إسبانيا والنرويج وإيرلندا، كما بات اسم نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت على قوائم الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية لأول مرة في تاريخ الكيان على اعتبار أنهما مسؤولان عن الإبادة الجماعية في غزة، كما نسف الطوفان أي فكرة لتمرير اتفاق مشوه شبيه لاتفاق أوسلو في غزة بهدف خلع أنيابها كما خلعت سابقاً أنياب الضفة، وظهر للعالم كله حجم الدعم الأميركي والغطاء الذي يمنحه لإسرائيل لمواصلة ارتكاب مجازرها التي انفلتت من عقالها مؤخراً وباتت قريبة من إشعال حرب إقليمية كبرى بعد تفجيرات أجهزة الاتصالات في بيروت وما تلاها من عمليات قصف واغتيال لقادة المقاومة وعلى رأسها اغتيال الأمين العام لحزب اللـه الشهيد حسن نصر اللـه في تجاوز غير محدود لكل الخطوط الحمر، الأمر الذي يهدد بشكل مباشر الأمن القومي لكل دول المنطقة من دون استثناء على اعتبار أن تمرير سلوك كهذا يعني أن إسرائيل لا يمكن إيقافها حتى لو قررت غزو أي دولة وتحت أي حجة.
عسكرياً، أكد «طوفان الأقصى» أن فترة 18 عاماً منذ محاولة العدو اجتياح جنوب لبنان في حرب تموز والفشل الذريع لدبابات ميركافا، لم تشهد أي تطوير لهذه المدرعة التي تعتبر فخر الصناعة الإسرائيلية بل إن المئات من مقاطع الفيديو وثقت للعالم تعاسة هذه الآلة في أزقة غزة وشوارعها وكيف تحولت إلى أفخاخ متحركة للجنود الإسرائيليين، كما تسبب «الطوفان» خلال عام من العمل على جبهة غزة وجبهات الإسناد، باستنزاف منظومات الدفاع الجوي التي تتغنى بها إسرائيل في حين بات خط الإمداد الأميركي بالقنابل والصواريخ التي تحملها الطائرات، الوحيد الذي يضمن استمرار الإجرام الإسرائيلي، وتوقفه يعني السقوط المدوي لحكومة نتنياهو لأنها لا تمتلك سوى التفوق الجوي الذي لم يختبر بشكل جدي حتى الآن بانتظار معركة حقيقية قد تجري في حال تنفيذ حكومة العدو لتهديداتها بضرب إيران، كما أظهرت أشهر الحرب البرية في غزة قدرة المقاومة على إيقاع خسائر كبرى بما توفر لها من أسلحة مصنوعة محليا فكيف سيكون الحال في جنوب لبنان؟
اقتصادياً، تسببت الحرب بخسائر هائلة لإسرائيل تجاوزت مئة مليار دولار بين إنفاق عسكري مباشر وخسائر جراء الشلل الاقتصادي وقروض مستمرة والضخ من الاحتياطي الأجنبي لمنع تراجع الشيكل الذي شهد فعلاً تراجعاً ملحوظاً خلال العام الماضي، كما تسبب الطوفان لأول مرة بفرض حصار على إسرائيل عبر جبهة الإسناد اليمنية التي منعت السفن المتجهة لموانئ فلسطين المحتلة من الإبحار في البحر الأحمر وأغلقت ميناء إيلات بشكل شبه كامل عبر حصارها ومسيراتها وصواريخها التي تطوله بشكل مستمر.
اجتماعياً، كانت الحرب قاسية جداً على قطاع غزة الذي شهد إبادة جماعية أدت لمحو أسر عن بكرة أبيها وتدمير أحياء وتغيير معالم، ووصل عدد الشهداء إلى أكثر من 40 ألفاً على حين اقترب عدد الجرحى من 100 ألف يضاف إليهم عدد ضخم ومجهول من المفقودين تحت أنقاض الحرب التي لم ترفع بعد، بينما تسبب الطوفان بأول حالة نزوح إسرائيلية من غلاف غزة وشمال الأراضي المحتلة وانحشارهم في تل أبيب وبقية المدن المحتلة، كما شهدت إسرائيل لأول مرة تنامياً كبيراً في الهجرة العكسية على حساب نسبة الوافدين التي هبطت بشكل كبير مقارنة بالأعوام السابقة فقدم إلى الكيان 33 ألفاً مقابل نحو 45 ألفاً هاجروا إلى غير رجعة يضاف إلى ذلك هجرة رؤوس الأموال وهي الأشد خطورة.
«طوفان الأقصى» أثبت خلال عام فقط إمكانية خلق الوحدة في المنطقة من دون التلاصق الجغرافي أو المذهبي أو العرقي، بل بوحدة المصالح والمبادئ، فأظهر «وحدة الساحات» بشكل جلي من اليمن للعراق للبنان وفلسطين، وكشف ما كان يخطط له الكيان للمنطقة واستعجل تنفيذه قبل نضوج ظروفه المواتية ما سيكون عاملاً حاسماً في إفشاله، كما أكد أن إسرائيل تتعامل مع حربها اليوم لا على مبدأ جز العشب الذي واظبت عليه لسنوات طويلة، بل على أساس قاتل أو مقتول، وهذا ما يبدو واضحاً من طريقة عملها وعدم اكتراثها للوقت الطويل ولأصوات العالم الحر الأمر الذي يجب مقابلته بالمقاومة فقط من دون أي تراجع أو تنازل عن أي شرط، بالتزامن مع بدء العدو مرحلة جديدة من مخططه في غزة القائم على تهجير سكان الشمال للجنوب بغية ضمه مجدداً، وكذلك استمرار حرب الاستنزاف والضغط السياسي حتى رؤية الكيان ينهار يائساً ويسلّم بالخسارة وبحقوق شعوب المنطقة وعلى رأسها حق الفلسطينيين بدولة مستقلة وذات سيادة.