اتجاهات التنافس الجيوسياسي والاقتصادي الأميركي الصيني
| د. قحطان السيوفي
العلاقات الثنائية المتوترة بين الصين والولايات المتحدة إحدى السمات الرئيسية في النظام العالمي المعاصر بشقَّيه السياسي والاقتصادي، وقد استمر هذا التوتر خلال ولاية الرئيس الأميركي جو بايدن، كما كان الحال عليه في أثناء حكم سابقه دونالد ترامب الذي هدد علانية مراراً بتوسعة نطاق حربه التجارية مع الصين حال فوزه بولاية ثانية، وبعد انسحاب بايدن من السباق الرئاسي وإعلان كامالا هاريس الترشح لخلافته، بدا أنها سوف تتبع سياسات مطابقة لنهج الحزب الديمقراطي لمواصلة سياسة احتواء الصين.
الكاتب السابق في صحيفتي «الإندبندنت» و«الغارديان» البريطانيتين، ومؤلف كتاب «العالم في 2050: كيف نفكر في المستقبل؟» هاميش ماكري بين أن التنافس الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين: يفهم في إطار توزيع نصيب القوى الدولية من الاقتصاد العالمي سابقاً.
ووفقاً لتقديرات حجم الاقتصاد العالمي بحلول عام 2050، سيبلغ نصيب الصين من الاقتصاد العالمي نحو 23 بالمئة، متجاوزة الولايات المتحدة بـ1 بالمئة.
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن صعود الصين يمثل حسماً من هيمنتها الاقتصادية على العالم، ومن جهة أخرى، يلاحظ تراجع أوروبي، في مقابل استمرار تأثير الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، وسيستمر تدهور أوروبا لأسباب عديدة أهمها، شيخوخة ونقص عدد السكان، وتختلف أولويات الدول الأوروبية وفقاً لاحتياجاتها.
بكين تحاول استغلال هذا الانقسام في المواقف الأوروبية؛ لتعزيز وجودها الاقتصادي في تلك القارة، وثني دول أوروبا عن التحالف الاقتصادي والجيوسياسي مع واشنطن.
وفي حالة تحول التنافس الصينـي الأميركي الحالي إلى حرب تجارية أو صراع جيواقتصادي، ستتجه أوروبا حتماً للتحالف مع الولايات المتحدة، وستقوم دول أوروبية بإعادة تقييم نيات الصين، وما إذا كانت تنوي التركيز على أهداف التجارة والتعاون، أم الاتجاه نحو شن حروب تجارية.
الصين في صعود بحساب الأرقام، وربما تزيح الولايات المتحدة عن مركز الاقتصاد الأكبر في العالم، إلا أنها تواجه مشكلة بوجود بعض التشوهات الديمغرافية؛ فالمجتمع الصينـي شائخ، وستواجه تحديات كتوفير العمالة اللازمة للنمو، والتركيز على اقتصاد دعم الفئات الأكبر عمراً.
بالمقابل يعتبر ماكري الاقتصاد الصيني، مهم جداً وضروري للاقتصاد العالمي؛ لامتلاك الصين للعديد من الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة المتجددة.
كما أن بكين تقدمت بشكل كبير في بعض أوجه التكنولوجيا الرقمية والحيوية المتقدمة، وتركز على اقتصاد الخدمات.
وتتنافس مع الولايات المتحدة على اقتصاد الذكاء الاصطناعي، وتمكنت من تطوير بعض التقنيات الماهرة.
الطريق سيكون صعباً أمام الولايات المتحدة لترسيخ هيمنتها؛ فأميركا تعاني من أزمات حقيقية وعميقة تهدد تماسكها الداخلي، وتحولت السياسة الداخلية الأميركية إلى حالة الاستقطاب الكامل والحاد بين اليسار واليمين؛ وصعوبة الوصول إلى حالة إجماع على المستقبل، مع احتمالات صعود الشعبويين مثل دونالد ترامب، الذي قد يعود إلى البيت الأبيض في الانتخابات، وبالتالي على الولايات المتحدة بذل المزيد من الجهد للحفاظ على تماسكها الداخلي، وتجاوز الاستقطاب.
قضية تايوان الأكثر حساسية التي ظلت أحد محددات السياسة الأميركية على صعيد مؤسسات صناعة القرار، ويبدو أن السياسات المتوقعة لترامب في هذا الملف تسمح للصين بمجال أكبر للمناورة، حيث ذكر في تموز 2024 أن تايوان عليها دفع مقابل حمايتها من قبل الولايات المتحدة التي تمدها بالدعم السياسي والعسكري في مواجهة بكين وهذا نهج ترامب الذي سعى سابقاً إلى تقليص الدعم الأميركي إلى الحلفاء.
اتخذت الولايات المتحدة تحت قيادة بايدن وهاريس خطوات واسعة لاحتواء التقدم التكنولوجي والعسكري للصين، بداية من تقييد صادرات التقنيات المتقدمة وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ومعدات إنتاج أشباه الموصلات، إلى فرض قيود جمركية على واردات المعادن النادرة، بزعم حماية الأمن القومي، الأمر الذي دفع الصين إلى التحول في نموذج نمو سمَّته «التنمية العالية الجودة»، بالتركيز على بناء اقتصاد أكثر مرونة مبني على الابتكار في إطار إستراتيجية النمو الجديدة الهادفة لخلق اقتصاد قادر على التعاطي مع المشكلات الجيوسياسية الطويلة الأمد، فمنذ ظهور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على الساحة العالمية، حاولت الولايات المتحدة عرقلة التقدم الصيني في هذا الصدد، وحظرت التعامل مع شركات صينية للإلكترونيات مثل «هواوي»، كما شجعت أميركا حلفاءها من الغرب، لإلغاء دول أوروبية مشروعات لشبكات اتصالات الجيل الخامس كانت تعاقدت عليها مع «هواوي».
على صعيد التنافس في الشرق الأوسط؛ تمثِّل اتفاقية التعاون الصيني- الإيراني واستخدام الصين ورقة إيران كتحدِّيً للولايات المتحدة، وأيًاً كان ما ستُسفُر عنه التطوُّرات المقبلة في مسار العلاقات بين الصين والولايات المتحدة وبين إيران في المستقبل، فإن الواقع يؤكد أُسَس عصرٍ لا تملك فيه الولايات المتحدة مفاتيح السيطرة الرئيسة على الشرق الأوسط، كما في الماضي، وقد تزداد حدَّة التنافُس الإقليمي بين القوَّتين ما يُفاقم حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط.
من جانب آخر إن واشنطن تعاقب الحكومات التي تفكِّر باجتياز الخطّ الأحمر في تعامُلاتها مع الصين، وسيُفضي ذلك إلى زعزعة الأمن والاستقرار داخلياً، وعلى مستوى الإقليم وبالتالي زيادة الضغوط الأميركية على دول المنطقة للحدّ من علاقاتها الاقتصادية بالصين، وخلال الفترة الماضية عملت الولايات المتحدة على تقليص النمو الاقتصادي الصيني في المنطقة.
وخلال زيارة وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو إلى الكيان الصهيوني في 2020، حذَّر المسؤولون الإسرائيليون من أن تعاونهم مع الصين سيُعرِّض علاقاتهم الإستراتيجية مع الولايات واشنطن للخطر.
واستخدمت واشنطن تهديداً مماثلاً مع بقية حُلفائها في منطقة الشرق الأوسط، وقد يفضي هذا التنافُس إلى دفع الصين إلى التفكير بزيادة وجودها العسكري في المنطقة؛ الأمر الذي قد يدفع بالولايات المتحدة للدخول في حربٍ باردة معها قي منطقةَ الشرق الأوسط المليئة بالتوتُّرات والصراعات.
تحت عنوان حماية طُرق التجارة، أنشأت الصين قاعدةً عسكرية في جيبوتي، وعززت مبادرة «الحزام والطريق»، وزادت انتشارها العسكري على امتداد هذا الطريق، وأقرت الصين موازناتٍ ضخمة لإعادة تطوير وتحديث الجيش الصيني، وتطوير أسطولها البحري خلال العقد المقبل؛ لحماية البلاد داخل وخارج الحدود الصينية.
منذ بداية الحرب الإرهابية على سورية، اتّخذت الصين موقفاً مؤيداً وداعماً للدولة السورية، وذلك بحُكم العلاقات التاريخية والقوية التي تربط البلدين، وتجاوز الموقف الصيني من الأزمة السورية حدود عدم الرضا عن التدخُّلات الأجنبية في الأزمة السورية، وظلَّت الصين على موقفها الداعم للدولة السورية، واستخدمت حقّ الفيتو مرات عديدة لإحباط صدور قرارات عن مجلس الأمن ضدّ سورية، كما عارضت أي تدخُّل عسكري في سورية ودعمت موقف سورية الصامد بمحاربة التنظيمات الإرهابية.
بين تهديدات ترامب والسياسات الحمائية التي اتبعتها الإدارة الديمقراطية الحالية تجاه الصين، يتضح أن ملف الحرب التجارية من بين أبرز التحديات التي سوف تواجه بكين خلال السنوات القادمة، وتحدد اتجاهات التنافس الجيوسياسي والاقتصادي الأميركي الصيني.
وزير وسفير سوري سابق