قضايا وآراء

عام على «الطوفان».. ما الأهم فيما فعله؟

| عبد المنعم علي عيسى

استخدمت إسرائيل اتفاق «أوسلو»، الموقع ما بينها وبين «منظمة التحرير الفلسطينية» شهر أيلول من العام 1993، لتمرير الرؤيا العميقة التي سادت في أوساط المؤسسين والنخب منذ نشوء الكيان والإعلان عنه في أيار 1948، والتي لم يكن من الصعب الاستدلال عليها في الكثير من المحطات التي تلت ذلك الاتفاق على الرغم من عديد التصريحات التي كانت تعاكسها في محطات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، والرؤيا العميقة هنا تقول إن باستطاعة إسرائيل الإبقاء على الأراضي الفلسطينية تحت سيطرتها وإلى أبد غير محدود، لكن شريطة أن يترافق الفعل مع العمل على تقليص عدد الفلسطينيين في تلك المناطق إلى الحد الأدنى، الأمر الذي من شأنه أن يحيل هؤلاء إلى الوضعية التي وجد «الهنود الحمر» أنفسهم عليها ما بعد الغزو الأوروبي لأراضي الولايات المتحدة التي كانت تسمى آنذاك بالعالم الجديد، والرؤيا إياها، وفق ما رسمها منظرون كبار من عيار جابوتنسكي ودزرائيلي وبن غوريون، كانت تضع في حساباتها، الأثمان والعقبات التي سوف تعترض عملية التطبيق، لكنها كانت متأكدة من أن إسرائيل المقبلة سوف تكون خارج دائرة الحساب والعقاب الدوليين التي يمكن أن تطبق عليها، كنتيجة للممارسات التي تتطلبها عملية وضع تلك الرؤيا قيد التنفيذ، والسبب بسيط ويكفي لتفسيره ذلك الارتباط العضوي ما بين الكيان والغرب.

كان إطلاق بنيامين دزرائيلي لنظرية «نهاية الزمان»، منتصف القرن التاسع عشر، أشبه بالتأسيس للقاعدة الإيديولوجية التي ستربط ما بين الكيان المرتقب وبين الغرب، فالنظرية عنت بتصدير مفهوم لهذا الأخير يقول إن الحركة الصهيونية إنما هي محاولة لإنقاذ يهود أوروبا من موجات «معاداة السامية»، ومع نهاية القرن التاسع عشر، تحولت الفكرة المتمثلة بـ«الحركة الصهيونية» في مؤتمر بازل 1897 إلى ذراع استيطانية يمكن لها أن تلعب دور الذراع المتقدم للغرب في المنطقة، وكل المطلوب من الغرب هو تمويل موجات الهجرة التي راحت تتصاعد منذ بدء عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي بدرجة تشير إلى وجود قرار غربي بقرب الولادة المنتظرة للكيان، وفي حمأة الفعل خرجت للعلن «خطة دالت» التي وضعتها منظمتا «أرغون» و«شتيرن» ما بين خريف العام 1947 وربيع العام 1948، والهدف منها هو ممارسة تطهير عرقي ممنهج على نطاق واسع ضد الفلسطينيين الذين حاولت مقاوماتهم عبر موجات تصدي راحت تتكرر من دون أن تستطيع إيقاف الزحف الذي كان يعتدي آنذاك بدعم بريطاني غير محدود.

في ذلك الوقت كانت «الحركة الصهيونية» تدرك جيداً وجود رغبة صارخة لدى المجتمعات الغربية بهجرة اليهود إلى أي مكان في العالم بعيداً عن المجتمعات الغربية التي كانوا يعيشون فيها، ولربما كان الأمر ينطبق أيضاً على المسيحيين المؤمنين بـ«العهد القديم» الذي يعرف بـ«التوراة»، وللأمر اعتباراته التي من أبرزها أن الغرب كان يفضل حل مشاكل مجتمعاته عبر الرمي بها إلى أي مكان آخر في العالم.

«خطة دالت» لا تزال حية وعميقة في الذات الجمعية للمستوطنين في إسرائيل، وحاضرة بقوة في غرف صناعة القرار الإسرائيلي ولا يمكن لها أن تغيب عنها، والمؤكد هو أن هذه الأخيرة كانت قد نظرت إلى «اتفاق أوسلو» كفرصة سانحة تتيح إعادة تنشيطها من جديد بعدما استطاعت العديد من القرارات الدولية مثل 242 و338، كبح جماحها ولو بشكل مؤقت نتيجة للتوازنات الدولية التي كانت سائدة زمن صدور ذينك القرارين عن مجلس الأمن، حتى إذا ما سجلت تلك التوازنات انقلابها رأساً على عقب، العام 1991، كان القرار بضرورة استثمار الفرصة السانحة لـ«دفن» فلسطين وقضيتها مرة واحدة وإلى الأبد.

عندما أطلقت حركة حماس عملية «طوفان الأقصى» فجر السابع من تشرين أول من العام الماضي، كانت تدرك ولاشك، ذلك الاختلال الهائل في ميزان القوى، وتدرك أيضاً أن الرد عليه سوف يكون ذي تكاليف باهظة على الشعب الفلسطيني، لكنها، على الأرجح، كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى إعادة إحياء القضية الفلسطينية من جديد بعدما توافق العالم كله تقريباً مع «خطة دالت»، والمؤكد هو أن حماس قد نجحت في تحقيق ذلك الهدف، فالقضية عادت من جديد على رأس الأجندة السياسية العالمية، صحيح أن التكلفة البشرية والمادية لتلك العودة كانت عالية جداً، لكن الصحيح هو أن ذلك أمر من الصعب تلافيه إذا ما أرادت الذات الفلسطينية الحصول على إقرار دولي بحقها في تقرير مصيرها، والشاهد هو أن ثلاثين عاماً من «سلام أوسلو» لم تفضِ إلا إلى إهالة التراب فوق تلك الذات وفوق ذلك الحق.

لولا «الطوفان» لظلت المسيرة البادئة ذات خريف من العام 1993 تشق خطاها حثيثة نحو «نسيان» فلسطين وغيابها عن ذاكرة العالم، ولظلّت «الجرافات» تهيل التراب فوقها حتى تحيل «كرتها» إلى سلعة لا مكان فيها لاستحضار ما كان قائماً قبل 78 عاماً.

عام على «الطوفان»، فلسطين حاضرة، وفلسطين حية في الأذهان، والفعل من حيث النتيجة هو أكبر إسناد للذات الجمعية لشعوب المنطقة التي تعرضت لقوى ضغط تهدد بدخولها مرحلة «تحول نوعي» لا بد أنها ستكون في غاية الخطورة على مستقبلها.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن