قضايا وآراء

الهجرة العكسية من الكيان وتفتيت قدراته البشرية

| تحسين حلبي

إذا كان الكيان الإسرائيلي لم يتمكن منذ عدوان 1967 حتى الآن من تصفية كل أشكال المقاومة ضد احتلاله وعجز عن تحقيق الانتصار الحاسم والنهائي على قوى المقاومة طوال أكثر من خمسين عاماً من الحروب الوحشية التي شنها عليها في دول الجوار العربية، فإن هذا لا يعني أن قوى المقاومة لم تحقق هزائم متعددة على جيشه وكيانه بشكل عام، بل هي تمكنت منذ حرب تشرين 1973 من زعزعة وجوده وعرضته لأول حرب مفاجئة فرضت عليه الشكوك حول مستقبل بقائه أمام تمسك قوى المقاومة بتحرير الأراضي المحتلة واستعادة الحقوق الفلسطينية، وبعد تلك الحرب تلقى الكيان هزيمة عام 2000 بعد احتلاله عام 1982 لجنوب لبنان على يد المقاومة اللبنانية وأطراف محور المقاومة، ثم هزمته المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عام 2005 حين أجبرته على الانسحاب من القطاع دون قيد أو شرط، وطوال تلك العقود الماضية كانت النتائج والمنجزات التي حققتها المقاومة تفتت قدراته وتزيد من أزماته وتزعزع ثقة المستوطنين والجنود بإمكانية البقاء فيه، ولعل أهم ما جسدته هذه المنجزات هو إجبار أكثر من مليونين من المستوطنين حتى الآن على العودة إلى الأوطان التي جيء بهم منها في أوروبا وأميركا وكندا وروسيا، ولأن أشكال الانتصار على هذا الكيان تفرضها طبيعة الخصائص الاستيطانية التي أنشئ بموجبها حين أحضرت بريطانيا عام 1920 إلى فلسطين يهوداً مرتزقة أوروبيين للاستيطان فيها وخدمة مصالح الاستعمار منها، فهذا ما جعل الهجرة العكسية للمستوطنين الآن ومنذ عقود عديدة أهم إنجاز لقوى المقاومة لأن عودة مليونين أو أكثر من المستوطنين إلى أوطانهم تشكل هروباً للقوة البشرية التي يعتمد عليها المشروع الصهيوني وتؤدي إلى انخفاض حاد في عدد الجنود وفي قدرة الاحتلال على تحقيق أهدافه، وقد يتساءل البعض وبشكل منطقي وهل تثبت الإحصاءات الإسرائيلية أن مليونين غادروا الكيان خلال ثلاثين عاماً؟

يكشف اليهودي الأميركي شاؤول ميتيل بونكت في مجلة «ديبلوماتيك هي ستوري» المجلد 46 العدد 5- تشرين ثاني 2022 في بحث بعنوان: «الخوف من انتهاء الصهيونية.. الهجرة المعاكسة للإسرائيليين إلى الولايات المتحدة في السبعينيات والتسعينيات» أن «ما يزيد على نصف مليون إسرائيلي هاجر من إسرائيل إلى الولايات المتحدة دون عودة خلال عشرين عاماً من 1948 حتى عام 1968»، وذكر أن الهجرة العكسية للإسرائيليين زادت بعد حرب تشرين 1973 حتى التسعينيات فأصبح عدد اليهود الذين تركوا إسرائيل وتوطنوا في الولايات المتحدة مليوناً، ويذكر أن موقع الكنيست كان قد أشار إلى وجود 800 ألف من الإسرائيليين الذين غادروا إلى الولايات المتحدة دون عودة، وفي السنوات السابقة كان إسحاق هيرتسوغ رئيساً للوكالة اليهودية التي تدير عمليات تهجير اليهود إلى الكيان فاختار تركيز نشاطه بالعمل بين هؤلاء الأميركيين اليهود الذين غادروا الكيان.

وإذا انتقلنا إلى أحد إنجازات عملية «طوفان الأقصى» وإسناد محور المقاومة لها على عدة جبهات أهمها جبهة جنوب لبنان، فسنجد أن نصف مليون إسرائيلي نفذوا هجرة معاكسة إلى أوروبا والولايات المتحدة خلال أول شهرين من عملية طوفان الأقصى، فقد أكدت هذا الرقم المجلة الإسرائيلية الصادرة باللغة الإنكليزية «ذا ميديل ايست مونيتور» في السابع من شهر كانون الأول الماضي.

وكانت المجلة الإلكترونية «باليستاين كرونيكيل» قد ذكرت أن 756 ألفاً من الإسرائيليين نفذوا هجرة معاكسة خلال 20 عاماً منذ عام 2000 حتى عام 2020، ونشرت مجلة «تايمز أوف إسرائيل» في 26 تموز 2023 نتائج استطلاع للراي تبين منه أن 28 بالمئة من الإسرائيليين يفكرون بالهجرة العكسية» وهذا يعني تقريباً ثلث الإسرائيليين، وكان هذا في شهر تموز 2023 أي قبل عملية «طوفان الأقصى»، فما بالك بعد أن واجه هؤلاء الانهيار الإسرائيلي في أول أيام عملية «طوفان الأقصى» التي يعترف وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق أفيكتور ليبيرمان أنه في أول يومين منها قتل أكثر من 1450 جندياً ومستوطناً إسرائيلياً وهو ما لم تشهده إسرائيل في كل حروبها، وكان يتحدث بمناسبة مرور عام على هذه العملية في السابع من تشرين الأول في خطاب ألقاه في مركز «رايخمان للأبحاث الإسرائيلية»، وفي 17 نيسان الماضي ذكرت صحيفة «هآريتس» أن واحداً من كل أربعة إسرائيليين يفضل مغادرة إسرائيل إلى الوطن الذي جاء منه.

ولا شك أن تمسك سبعة ملايين فلسطيني بالبقاء في الأراضي المحتلة من الجليل حتى الضفة الغربية وقطاع غزة يشكل إنجازاً كبيراً حققه الشعب الفلسطيني بصموده العظيم وبتضحياته الجسام فلم يبق في الكيان الآن سوى عدد يقل عن ستة ملايين مستوطن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن