التقانة وغيابنا القاتل
| إسماعيل مروة
تحدث كثيرون، وكلهم غيور على الأمة والمجتمع، وجميعهم يدعون إلى ضرورة امتلاك المعارف والعلوم الحديثة، لأن من يمتلك العلوم والتقانة هو القوي وهو المتحكم، وكم كان مدعاة للسخرية ذلك المسؤول الذي يحمل لقباً علمياً في إحدى الدول العربية، وهو يقول: لقد فضل الله أمتنا على الغرب، فهم يعملون ويتعبون ويخترعون، ونحن نتمتع بما يقومون بصنعه واكتشافه، وبرأيي هذا العالم النحرير، هم أمم لخدمتنا، ونحن أمة الهداية والإيمان، ودورنا مقتصر على إرشادهم وهدايتهم إلى الله! هذا الحديث وأمثاله أحاديث كثيرة متاحة لمن أرادها في وسائل التواصل، وهناك أحاديث أكثر غرابة، وآراء يستحق أصحابها الجلد والصلب لما لها من تأثير على الجيل الجديد لأنها تجعله متكاسلاً متواكلاً، وفي ذيل قائمة الشعوب.
ضربت في وقفات كثيرة أمثلة الكمبيوتر أو الحاسوب أو ما شئت من تسمية تروق أو لا تروق لجهابذة المجامع الذين لا يعرفون شيئاً عنه أكثر من الخلاف على اسمه، هذا الجهاز العظيم ومنذ وصول إلى بلادنا العربية نقوم بشرائه واستخدامه، ونفاخر بامتلاكنا له، ولا يخلو بيت من عدد من الأجهزة عند عدد من أفراد الأسرة، ومنذ وصوله إلينا نحن نتعامل معه بطاقتنا القصوى، وبطاقته الدنيا، ولا نعدو أن نكون مستثمرين من الدرجة العاشرة له، فإن توقف لسبب ما لا نعرف السبب، ولا نجيد تطويره، وإنما نجيد استبداله، ولا نعرف طاقاته الكبرى التي يمتلكها، وذلك كله لأننا لم نسهم في صنعه وتطويره.
ومن ثم جاءت تقنيات أخرى وأخرى، وجميعها لدينا وبأحدث الموديلات، ولكنني أزعم أن الخبراء لدينا لا يعرفون مواصفات هذه التقانات، ولم يطلعوا الدراويش أمثالي على أبعاد هذه التقنيات، فالهاتف هناك كثيرون يقولون عنه إنه جاسوس علينا، لكن واحداً لا يعرف كيف، والطريف أن الذكي منا يقوم بإبعاد الهاتف عنه عندما يريد أن يتحدث أو يقلبه على ظهره بحركة أقل ما يقال عنها أنها ساذجة.
يقول لنا البرنامج: المحادثة مشفرة، ونصدق مباشرة، وقد يصل استخدامنا للجهاز إلى أدق الاستخدام الخاص، ونحن نزعم أننا خبراء، وفجأة تنفضح أمور، أو يتبين أن الأمور غير مشفرة، وأن كل ما تمّ موجود ومراقب، فلا نملك إلا أن نشتم التقانة!!
التقانة قوة وسيطرة بأي شكل من الأشكال، وإن كنا نحن لا نفهم منها إلا رُهاب التجسس، إلا أن الأمر أبعد من ذلك بكثير، هو اختراق للخصوصية الفردية، واختراق للخصوصية المجتمعية، واختراق للمنظومة القيمية، وتغيير سريع لمجمل العادات والتقاليد الموجودة في أي مجتمع، والأكثر أهمية إن التقانة وسيلة من وسائل الحرب والقتل والدمار، وليست وسيلة رفاهية كما نزعم منذ عقود، ونحن نتنغم بما تجود علينا مؤسسات بحثية وصناعية واستخباراتية في العالم المتقدم، الذي وصفه الدكتور الداعية كما سلف بأنه جاء ليخدمنا، فلنتفرغ نحن للدعوة إلى الإيمان والهداية، ولنترك ذلك العالم يخدمنا!! ليس لذلك العالم المكتظ بالعلماء سوى أن يقوم على خدمتنا وأداء فروض الطاعة والشكر لنا على إيماننا..!
التقانة استهلاك لكل ما لدى العالم من مال وقيم ومجتمعات، وهؤلاء العلماء الذين لا يعرفون تفاصيل منتوجهم النهائية، تتفتق أذهانهم عن إخفاقات، هذه الإخفاقات تجمع عند المعنيين، لتصبح التقانة على ما أصبحت عليه، وما حدث لنا وما يحدث من دمار وعدوان ليس إلا نتيجة من نتائج التطور والتقانة، ولكنه النتيجة الأولى لجهلنا وابتعادنا عن العلم والتقانة، والاكتفاء بالزوايا والتكايا والحجور، معتقدين أنها هي التي تقربنا من الله، وكأن الله كاره للعلم..
ألم يكن بإمكان الأمة بما ملكت من علماء كبار، بدل أن تطردهم، وتفرح لابتعادهم أن تكون شريكة في التقانة والكمبيوتر ووسائل التواصل؟ ألم يكن ممكناً لسادة المال بدل الاستثمار في قضايا تجارية وسواها أن يتاجروا في مراكز أبحاث تجعلهم قادرين على الفعل والمشاركة والتوجيه؟ ألم يكن أجدى، ونحن نصرح منذ عقود طويلة بأن الحروب إعلام وتقانة، وكلاهما يسيطر عليه أباطرة المال أن نكون أصحاب إعلام وتقانة؟
قالت الجدات: الصباح الذي يشرق وأنت نائم ليس من حقك أن تسأل عن حصيلتك في نهاية يومه! لماذا نزعل من الأيام؟ لماذا نشتم الآخرين إن تكالبوا علينا؟ لماذا نستغرب أن تحصدنا التقانة بأبسط الأساليب؟
حتى عندما يحدث ذلك نبدأ البحث عن شمّاعات وأسباب لتسويغ عجزنا، علماً بأن العالم الإنساني في التقانة تحوّل إلى لا شيء، وخاصة في مجتمع لا يؤمن بالعلم، ولا يزال يبحث في تفاصيل ثوب ولحية، افتح أي وسيلة تواصل.. الأمة لا تزال في موضوعاتها والعالم تجاوز الجينوم ولم يقف عند حدّ معين!
حتى في العلوم الإنسانية ما زلنا عند امرئ القيس ونظرية النظم عند الجرجاني، والمولد والدخيل، لا نعرف كيف نولّد من ذواتنا أشياءنا، وبقينا على هامش الفكر والأدب، لا نجيد قديماً، ولا نخرج إلى جديد في كل ميدان، نحن نمارس الخوف، وها هو الماضي يصفعنا، والحاضر يرفضنا، والمستقبل لا يعرفنا.