ثقافة وفن

«زمن التجريد».. الفن الذي أحدث ثورة في العالم التشكيلي … الأشكال الأولى بدأت مع إنسان الكهف الذي عبر عن نفسه بنقوش تجريدية مختلفة

| مايا سلامي

صدر عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة للكتاب دراسة بعنوان «زمن التجريد»، تأليف محمد نقشو، تقع في 416 صفحة من القطع الكبير، وتشكل إضاءة على شاعرية العالم غير المرئي لفن التجريد، وتمحيصاً في تفاصيله ودوافعه، وما آل إليه بعد قرن من ولادته، فهو الفن الذي أحدث ثورة حقيقية في العالم بجوار الثورة العلمية والتقنية المرافقة التي غيرت إحداثيات الفن والأدب، وما زال الانعطاف مستمراً. فقد اعتمد التجريد المولود الجديد وآخر المدارس الفنية أسساً جديدة في التعاطي مع الفن شكلاً ومضموناً، منعتقاً من سطوة التصوير الطبيعي الذي ساد قروناً طويلة باحثاً عن تكوين بناء جمالي حر يخاطب العواطف والمشاعر والأحاسيس.

وادعت هذه النزعة التشكيلية أن الفن الصحيح منفصل عن الأفعال والموضوعات التي تتألف منها التجربة المعتادة، فالفن عالم قائم بذاته وليس مكلفاً بالسير على إيقاع الحياة أو الاقتباس منها. ومن هنا باتت مفارقة الواقع أمراً محتوماً لا تحتاج إلى الإتيان بشيء منسوخ منه بل إلى الإحساس بالشكل واللون، كي يثير هذا الخطاب البصري انفعالاً جمالياً لدى المتلقي من خلال العلاقات الشكلية، وهكذا خرج التجريد عن نص الطبيعة وفلسفتها وقوانينها الرياضية وبدأ بالتوقف والرجوع عكساً لرؤية ما لم ير من قبل.

الأشكال الأولى

وفي البداية يتحدث الكاتب عن الأشكال الأولى لفن التجريد التي بدأت مع إنسان الكهوف الذي عبر عن نفسه وعصره بنقوش مختلفة حفرها على جدران منزله الأول (الكهف)، ويقول: «تدخل اللوحات الجدارية أو رسوم الكهوف أو فن الكهوف جميعها ضمن الفن البدائي، ويقصد بها تحديداً زخرفة الإنسان الأول لجدران الكهوف والملاجئ الصخرية في جميع بقاع العالم، وبينما يعد الفن التشكيلي عادة رفاهية للشعوب، يثار النقاش دائماً حول هدف الإنسان الأول من الرسم، ولاسيما فن الكهوف في العصر الحجري القديم».

ويوضح أن الإنسان الأول اهتم برسم الحيوانات، وأن تلك الرسومات شكلت أهمية بالغة في حياة فنان ذلك الوقت، كما تأثرت ألوان نقوش الإنسان الأول بهذه البيئة باستخدامه المعادن أصباغاً لرسومه، فساد على خطوطه اللون الأسود والأصفر والأحمر، التي أنتجها من أكاسيد الفحم والمنغنيز عن طريق الطحن أو الخلط أو التسخين، وتطبيقها على الأسطح الصخرية بالنفخ في العظام الجوفاء، أو بفرش مصنوعة من الشعر أو الطحالب.

أهم المبتكرين

ويتناول محمد نقشو في دراسته تجربة الفنان الروسي فاسيلي كاندينسكي الذي يعد أحد أشهر فناني القرن العشرين بسبب اكتشافاته في مجال الفن التجريدي التي جعلته واحداً من أهم المبتكرين والمجددين في الفن الحديث.

ويبين أن لوحة فان كوخ التي رسم فيها كومة القش الأصفر على حقل من حصاد القمح كانت المفتاح الذي أدخله عالم التجريد، حيث رأى فيها بناء مضمونياً متحركاً بانبثاق الوعي الفكري بالعمل الفني.

ويشير إلى أن كاندينسكي توصل من خلال تفكيره بالمسارات إلى أن الحقل التجريدي هو واحد من الحقول النقية، يقابل في نقائه الموسيقا الصافية، وهو بالتالي ليس مديناً لحالة المطابقة أو تقليد الطبيعة الأعمى، إذ يستطيع الاستغناء عنها، رغم بقائه محكوماً بقوانينها. لهذا طالب عبر بحوثه النظرية الأولى بضرورة اتجاه حركة الفن المعاصر إلى هدفين متلازمين: أولهما إيقاظ العين الداخلية لدى الفنان والمتلقي في وقت واحد، والثاني إقامة علاقة تفاعلية للفنان بين الجزئي والكلي، ففتح بهذا بوابات سجن الطبيعة الكبير أمام حركة الفن المعاصرة.

ويشار إلى أن كاندينسكي أسس النظرية التجريدية في الفن، وأراد إسقاط الصورة بوصفها العنصر الوثني، التي تحول دون تطور وظيفة الهيكل، لافتاً إلى أن نظرياته التجريدية أخضعت للنقد والتحليل والتعديل. لكنه كان سباقاً في الذهاب إلى ذلك الحقل وتركيب اللوحة التي صارت اليوم أساساً لفهم المفردات التجريدية وأثرها الفعال.

فانتازيا التجريد

وفيما يتعلف بفانتازيا التجريد يبين محمد نقشو أن التجريديين سعوا إلى تصوير المشاعر الكامنة في داخل الإنسان والبحث في ما وراء الطبيعة، وتشخيص تلك المساحات اللاواعية بين الحلم والواقع، في تجاوز لمفهوم المحاكاة الذي تأسس عليه الفن التشكيلي، وانتقلت الحال من مجرد كونها تجربة لتطوير أساليب الفن إلى تيارات حملت مفاهيم ومضامين أشد تعقيداً.

ويكشف أن اللوحة التجريدية سارت بعد الحرب العالمية الثانية في اتجاهات جديدة تماماً، وقت أراد جيل جديد من الفنانين إظهار أنماط مرحلة ما بين الحربين العالميتين، وبدلاً من التمثيل المجازي أو التجريد الهندسي الذي كان سائداً آنذاك، اندفعوا إلى تجريد مستمد من الرمزية لدى أسلافهم السرياليين في الولايات المتحدة، في حين ذهب نظراؤهم في أوروبا إلى إنهاء تمثيل الموضوع داخل العمل الفني.

ويوضح أن النظر إلى هذه اللوحات التجريدية يظهرها للوهلة الأولى وكأنها مجرد خطوط وألوان وأضواء ودرجات حرارة متباينة، وترى فيها أيضاً أشياء تنبض من داخل هندسة كونية- روحية، فلا خربشات لأن الفنان درب خياله وملأه من أجل عالم مختلف يحتفي به، وحياة متوارية يعيد صياغتها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن