قضايا وآراء

انكسار الموجة الأولى

| عبد المنعم علي عيسى

تشي التطورات الحاصلة في الجنوب اللبناني بدءاً من 23 أيلول المنصرم فصاعداً، أن إسرائيل قررت كسر «شوكة» حزب الله، ولربما يصل التفكير الإسرائيلي راهناً إلى حلم تفكيكه، ومن المؤكد هو أن ثمة «محفزات» تجعل من ذينك الأمرين، القرار والحلم، أمراً مشروعاً من وجهة نظر صانع القرار في تل أبيب، ولعل أبرزها اثنتان، الأولى هي «النجاحات» التي حققها الجيش الإسرائيلي في مواجهة حزب اللـه بدءاً من سلسلة الاغتيالات التي نفذها ضد قادة من الصف الأول فيه، ووصولاً إلى حادثة «البيجرات» التي تلاها اغتيال أمين عام الحزب بكل ما يرميه الفعل من حمولات على بيئة عاشت وترعرعت على الزخم الذي أعطاه هذا الأخير للحزب، وبيئة، ترى نفسها في خندق التماس المباشر مع القضية الفلسطينية، والثانية هي حال الانقسام التي يشهدها الداخل اللبناني تجاه تطورات الصراع الحاصل راهناً، والمؤكد هو أن هذا الفعل الأخير يشكل عاملاً ضاغطاً على قرارات، وخيارات، الحزب بدرجة قد تفوق التهديد الإسرائيلي باجتياح الجنوب اللبناني وصولاً إلى نهر الليطاني.

في الوقت الذي منح التفوق الجوي لكيان العدو رجحاناً لكفة جيشه الذي راح يدك ضواح سكنية بذريعة ملاحقة هذا القيادي أو ذاك القائد، كانت فرقه الأربعة، المدرعة والمظلية الخاصة والميكانيكية والمشاة، عاجزة عن التقدم لأكثر من بضع مئات من الأمتار داخل الحدود اللبنانية، بل إن أقصى ما استطاعت الوصول إليه هو قرية مارون الرأس التي وصلها بعض الجنود الذين اكتفوا بالتقاط الصور ثم العودة إلى مواقعهم التي انطلقوا منها، وفقاً للمصادر الإسرائيلية نفسها، والمصادر إياها تضيف: إن «محاولات الجيش تحقيق اختراقات على الحدود لم تلقَ نجاحاً حتى الآن»، فيما تقول «هآرتس» في تقرير نشرته يوم الأربعاء الماضي: إن «مقتل حسن نصر اللـه أعطى دافعاً قوياً، كما يبدو، لمقاتلي حزبه لكي يقوموا بكل من شأنه إثبات ولائهم لتعاليمه»، وإذا ما كان الحديث كذلك على ضفة العدو فإن الحديث على ضفة التاريخ يقول: إن مقاتلي حزب اللـه قرروا تسطير ملاحم مكتوبة بالدماء، وبروحية تتخطى تلك التي تختزنها ذواكر العالم عن حروب فيتنام، صحيح أن «عتي» التكنولوجيا بات اليوم رقماً حساساً في موازين القوى بدرجة تفوق بكثير تلك التي كان عليها زمن الحروب آنفة الذكر، ناهيك عن معطيات أخرى عدة تضاف إلى ذلك «الرقم» وهي ليست بأقل منه، لكن «عتي» العقيدة، والإيمان والتجذر على الأرض، يمكن لها أن تكون مجتمعة رقماً صعباً من شأنه التقليل من عتي الأولى، بل وكسرها أيضاً.

تقول المعطيات وحسابات موازين القوى بما فيها تراصف الأطراف الداخلة في الصراع على ضفتيه: إن القتال اليوم بات من أجل حراسة الجغرافيا وصون التاريخ في مواجهة «تنين» يريد أن يعصف بكلا الاثنتين، والقتال، يدور بين مقاتل عقائدي سبق للشهيد عماد مغنية أن قال عنه: «نحن يكلفنا تجهيز مقاتلنا المجاهد الواحد روحيته التي تقاتل، وبها يقاتل وينتصر»، وبين مقاتل تصل تكلفة إعداده عشرات الآلاف من الدولارات، وفوق ذلك فهو مدعوم بأعتى التقنيات والذخائر التي جرى تسويقها على أنها «هدايا السماء» التي أرسلتها لحماية «شعب اللـه المختار» على الأرض، ولربما كان إيقاظ هذا «الإرث التوراتي» دلالة واضحة، وأكيدة، على حجم المشروع الذي يجري التفكير بتنفيذه، فاستحضار «المقدس الديني»، كما يجري اليوم، وفقاً للمعطيات الراهنة يؤكد أن إسرائيل، ومشروعها، على أعتاب مفترق كبير، ولربما ينصب التفكير راهناً على أن «أسرلة» المنطقة، بمعنى السيادة الإسرائيلية عليها، أمر متاح تبعاً للتوازنات الهشة السائدة في المنطقة والتي بدأت آثارها تظهر عبر موجات «الربيع العربي» التي أثبتت لإسرائيل والغرب أن التناقضات القائمة ما بين دول المنطقة هي أعمق من تلك القائمة ما بينها وبين «الهويات» المحيطة البعيدة منها والقريبة.

في الأول من شهر تشرين الأول الجاري ظهرت على وسائل الإعلام الإسرائيلية إعلانات عن «بيع عقارات لمن يرغب بالاستيطان في الجنوب اللبناني»، والبعض من قادة العدو كان قد قال: إننا «على بعد قرار استراتيجي واحد من هذا الحلم» الذي يقصد به قضم جنوب لبنان ومنع سكانه من العودة إليه، والمسألة إذاً، لم تعد عملية لإبعاد مقاتلي حزب اللـه إلى ما وراء نهر الليطاني لضمان عودة المستوطنين إلى الشمال، بل هي تتعداها لفرضية تقول: إن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يتبنى، ويرى نفسه قادراً على رؤية مفادها أن الحل الوحيد لوقف الصراع «الهوياتي» في المنطقة هو سيادة «هوية» ما عليها، وهذه الهوية لا يمكن أن تكون سوى إسرائيلية بحكم ميزان القوى وتشرذم المحيط الآخذ في إنتاج سبل أكثر «إبداعاً» في ممارسة الفعل.

الإحساس بـ«فائض القوة» قد يكون خطره أكبر على من يشعر به من خطره على الخصوم، فتجارب المنطقة تقول: إن شعوبها عصية على التطويع ووضعها في قوالب خادمة لمشاريع خارجية، والانتكاسات التي مرت بها، إبان مقاومتها لتلك المشاريع، لم تستولد سوى أنماط أخرى من المقاومة، فيما كان التنقل «الإيديولوجي» ما بين لبوس وآخر فعلاً يستحضر المزاج العام السائد، ويأخذ بعين الاعتبار ميل هذا الأخير، لكن «الأطر» كلها كانت نتاجاً موضوعياً لذات جمعية ترى أن هويتها ومشروعها باقيان.

في الأسابيع الثلاثة الأولى يمكن الجزم أن موجة الهجوم الأولى قد انكسرت، وانكسار اللاحقات بها، التي ستأتي حتماً، أمر رهين باستمرار آليات عمل «الدورة الدموية» كما كانت عليه في السابق.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن