أخذ من الطبيعة طزاجتها فعلمته وأعطته مفاتيح أسرارها … سعيد مخلوف وتراث من المنحوتات الفكرية والرمزية .. أدونيس: رسالة الفينيق إلى العالم بين أصابع سعيد مخلوف
| إسماعيل مروة
في عالم التشكيل والفن والإبداع له اسم كبير، وحمل اسم المعلم في النحت، وكان له مرسمه الخاص أو مشغله الذي يقوم فيه بنحت مشغولاته وصياغة أفكاره، وفي الحياة كان زاهداً عازفاً، ينحت ويقدّم، يبدع ويهدي، يعلي الصداقة والبطولة، ويقدم للتلاقي الفكري ذوب إحساسه ورموزه، عاش في حضن الطبيعة، نهل منها، أعطته مادتها وخشبها وحجرها، فخرج منها إلى مشغله في دمشق ليهدي العقاب والرمز، ويخلّد البطولة غير عابئ بكل ما يمكن أن يعود عليه فنه.. إنه سعيد مخلوف الذي مرت الذكرى 99 لمولده منذ مدة، وقد أهدى مشغولاته للعالم، احتفت به غاليري جورج كامل، وقدمت كتاباً لائقاً بالتعاون مع جوليا دومنا، وببحث واستقصاء دؤوب من الدكتور عدنان مخلوف الذي دفعه حبه وإعجابه وقرابته إلى هذا العمل حتى لا تضيع أعماله ويتناثر منجزه الإبداعي.
الطبيعة المعلم الأول
«كان عمري خمسة وثلاثين عاماً عندما تفرغت للنحت، وكان أقراني يعجبون من أنني أنتج وأنفذ أعمالي بسرعة هائلة، خصوصاً عندما أعمل بإزميلي في جذوع الأشجار الكبيرة والضخمة، وأستوحي من تضاريسها وأستقرئ منها تكويني وأستغل كل شيء في الطبيعة، ولا أوفر منها شيئاً لا أنحته، نعم من مدرسة الطبيعة تخرجت، وفي المتحف الوطني درست».
هكذا يتحدث سعيد مخلوف عن نفسه، ويظهر علاقته القوية بالطبيعة والشجر، وشغفه بالعمل بالتكوين والإنجاز، ومردّ ذلك إلى معلمه الطبيعة التي سمحت له، جاءت بجذوع أشجارها الضخمة، ومنحته الحرية والإلهام في التكوينات والرموز التي كانت هي نفسها جزءاً مهماً منها.. أما دراسته فيحصرها بالمتحف الوطني الذي كان مشغله فيه، وكان دائم التأمل والعمل في كل لحظاته التي عاشها فيه، فاستحق المتحف منه لقب المعهد الذي درس فيه وأخذ منه تقنياته وعلومه.
الأبعاد الفكرية
لم يكن سعيد مخلوف فناناً ومبدعاً من فراغ أو عاشقاً لفكرة الفن للفن، بل كان صاحب رؤية فكرية وانتماء، وهذا يساعد الباحث والناقد في تتبع رموزه وأدواته ومنحوتاته، وهو القومي الذي آمن بمبادئه إيماناً راسخاً لا يتزعزع لديه حتى النهاية، إذ يذكر د. خلدون مخلوف الذي سخر نفسه لهذا المنجز فيقول «وكان يحرص دوماً على تفاخره بنسبه وانتمائه القومي السوري خصوصاً بعد زيارة زعيم الحزب القومي السوري ومؤسسه أنطوان سعادة لدارة آل مخلوف في القرية، وهذا مما زاد تمسكه وتعلقه بهذا الحزب وزوبعته ورسالته، ولذلك نرى العديد من أعماله التي تدل على صراع كبير بين فكرة اللاطائفي والواقع».
وهذا الحديث ضروري للغاية، لأن معرفة مناهل الفنان الفكرية هي التي تحدد أعماله وتوجهاته وغاياته، ويشير معدّ الكتاب بوضوح إلى الأسباب وما نتج عنها من منجز يدور حول زوبعة الحزب ورسالته وغايته الفكرية، ويجد المسوّغ لذلك من ارتباط الفنان وأسرته بزعيم حزب زار دارتهم في قرية بعيدة، وكان الوصول إليها صعباً في ذلك الوقت.. ويستنتج د. مخلوف أن الأثر كان كبيراً فنياً وفي توجهاته، ومحاربته للأبعاد الطائفية، كما تتبعها في أعماله وحياته.
مخلوف وعلاقاته الفكرية
كانت عبارة الشاعر السوري الكبير أدونيس عنواناً عريضاً «رسالة الفينيق إلى العالم بين أصابع سعيد مخلوف، وبكل عمل له رسالة للمجتمع العالمي ليس فقط بلاد الشام» وفي عرض الأعمال يكتب المعدّ عبارة ذات دلالة «كان أدونيس الشخص الأقرب إلى روح سعيد مخلوف، وكان بينهما لفترة طويلة تقارب ثقافي واجتماعي كبير، وأهداه هذا العمل في نهاية سبعينيات القرن الماضي»، عبارة أدونيس عن سعيد مخلوف فيها فينيق الفكر، وعبارة المعدّ تؤكد ذلك ولكن تعتمد تعبير (كان) وأدونيس كان واحداً من دعامات الحزب القومي، وذلك مبثوث.
في حواراته، ومنها حديثه الذي نشرته «الوطن» كاملاً عام 2010م، ونشر في كتاب صدر عنها، وأدونيس يقول: تركت الحزب القومي وانفصلت عنه لأسبابي، فالعلاقة بينهما بيئية جغرافية، واجتماعية فكرية، وسياسية إلى حدّ ما، والفرق بينهما أن سعيد مخلوف بقي قومياً إلى النهاية، وأدونيس انسحب بعد مرحلة من الالتزام، وإن بقي مؤمناً بالحزب وآرائه وأفكاره، فهل مردّ استخدام (كان) يعود إلى التباين في الرأي تجاه الحزب الذي آمنا به معاً في مرحلة من المراحل؟ ويبقى التقارب الفكري والاجتماعي والسياسي والبيئي هو الجامع الأول في صداقته المميزة مع أدونيس، ولا يعكر صفوها أنها كانت، وربما كانت لأن الفنان رحل، والشاعر لا يزال، فكان الماضي تجمعهما.
آراء وحياة وأنشطة
آراء كثيرة قيلت من قبل في سعيد مخلوف، وآراء قيلت لأجل تكريمه في هذا المنجز التوثيقي، ومما قاله غسان الشامي عنه «فوق، في الأعالي، موطئ النجم، ضهور الشوير، يرتع الآن نصب المقاومة الوطنية، النسر الذي تحب، قمة الأجساد التي تحمل بعضها، رمز الأعالي، هو بانتظارك أيها العم، كما الأحبة».
وقال فيه سعيد بكر ما يدل على مكانته بين الفنانين المعاصرين «في أواسط السبعينيات زرت مع الفنان لؤي كيالي مشغل النحات الكبير سعيد مخلوف في معرض دمشق الدولي، وكانت الزيارة مدهشة من خلال الأعمال الخشبية المتناثرة في أرجاء المكان. زيارة هادئة وكان صمت لؤي كيالي كله إعجاب وتقدير حتى بعد المغادرة».
وكذلك كتب الفنان الكبير يوسف عبدلكي ينصف الفنان في كلمة ذات قيمة فنية ونقدية، تحمل التقدير والنقد «أعمال سعيد مخلوف برزت كأعمال معاصرة تنوس بين الرمزية والتجريد، غير أن أعماله على جذوع الأشجار تعتبر أرفع إنجازاته وأكثرها خصوصية، فهي بملمسها الخشن، وعلاقات كتلتها اللينة العمودية، وبأحجامها الكبيرة تجاوبت بأفضل الصور مع تصورات نحات غير أكاديمي، ينأى بنفسه عن الأشكال الواقعية وإرباكاتها التشريحية».
العلمية النقدية واضحة فيما كتبه عبدلكي أمام مشهدية النحات ومشغولات سعيد مخلوف، فأظهر براعته وأماكن تفوقه، وبيّن الأسباب، التي تتعلق بانتماء الفنان لهذه الأشجار وجذوعها المقطوعة، ومع افتقاد الفنان للأكاديمية التي تقيد الفنان بالأحجام الواقعية، وضرورة اتباع المعايير والمقاسات، وما يتعلق بها، لكن الفنان وجد نفسه حراً غير مؤطر بأي قواعد فنية في النحت والمدارس الفنية.
شيخ النحاتين السورين
وبحثاً عن رأي نقدي في تجرية سعيد مخلوف تواصلت مع الناقد التشكيلي المتخصص الأستاذ سعد القاسم، الذي زودني برأي كان جزءاً من حوار أجراه مع النحات الكبير عام 1995 ليقدم ذاكرة من أرشيف الفن السوري ونقده.
وهذا نص ما كان جزءاً من حوار الأستاذ القاسم:
ترى هل استخدم هذا اللقب يوماً في وصف نحاتنا الكبير سعيد مخلوف؟!…
ربما.. وربما لا.
لكنه في الحالين الوصف الذي يتبادر لنا فور سماع اسمه. فقامته الشبيهة بجذوع الزيتون العريقة، وهو من عايشها طويلا، ولحيته الجليلة، وحكمة السنين وخبراتها المتراكمة.. تصنع جميعاً صورة الشيخ المهيب الصلب العارف..
وهو إلى ما حباه اللـه من خصال، ومنحته الطبيعة من حقائقها. اسم ينهض في الذاكرة مع كل مرة يكون الحديث عن النحت السوري بجذوره الضاربة في أعمال التراث الثري للنحاتين السوريين الأوائل، وفروعه الممتدة في زمننا..
اسم سعيد مخلوف يمتد اليوم على رقعة واسعة في الأرض.. من التمثال المجنح الذي يلاقي القادمين إلى دمشق من مطارها.. إلى المنحوتات العديدة المتوزعة في أركان معرضها الدولي وبحيراته وحدائقه… إلى قاعات المتاحف في دمشق وحلب وغيرها من مدننا.. إلى عواصم عربية وعالمية عديدة انتقلت إليها منحوتاته مع متذوقين للفن الأصيل لتكون سفيراً لحضارة تضرب جذورها في آلاف عدة من السنين، وشاهداً دائم الحيوية على ابداعها المستمر..
انا زرت (اللوفر) – يقول مخلوف- لقد اخذوا من عندنا (عجائب)، ومن مصر أيضاً.. احسست كم في هذا التراث العظيم من كنوز. يكفينا أن اثنين قالوا: إن كل انسان في العالم له موطنان: موطنه الأصلي، وسورية.
الحمد لله في متحفنا يوجد الكثير.. بعل وغيره وغيره.. أنا بقيت 13 سنة اذهب إلى المتحف يومياً.. ويومياً أرى شيئاً جديداً.. المتحف معلمي.. والطبيعة معلمي الآخر..
إنه مناسبة تكريمية لنحات أعطى عمره للنحت والإبداع فيه، وغادر بهدوء، لكن إخلاص المحب المنتمي أعاد جمع تراثه، وأقام له معرضاً مع كتاب لائق بالإبداع وسعيد مخلوف.