لم تزل روما بعينيها تقاتل
| إسماعيل مروة
بالأمس التقيت مصادفة بواحد من الأصحاب القدامى، كان يمشي بقامته وأناقته، اقتربت منه، حاولت أن أحدثه، لكنه مرّ دون أي كلمة، وحين استوقفته أصبت بدهشة كبيرة، فهذا الرجل الذي يملأ المكان حركة وحيوية ونقداً، تراجعت ذاكرته، وأدركه النسيان، فهو لا يتحرك بلا ذاكرة، وبلا صورة أصحاب.. هذه الصورة تتكرر مع كثيرين عندما يدهم المرض واحداً من أحبابهم أو من معارفهم، فيختلف الأمر كثيراً، وقد يضطر المحيطون به إلى استبقائه في مكان محدد تحت السيطرة حتى لا يتوه، أو يؤذي نفسه، أو يؤذي الآخرين…
وفي كل يوم ينزل واحد من مكان تربع عليه زمناً، تحكم فيه بحب أو بحقد، تقابله في كل شارع وهو ساهم شارد، لم يفقد ذاكرته، وإنما فقد ما هو أهم، فقد ذاته. فكأنما يكلم نفسه، ويظن أن الكون كله ضده، ويتوهم أنه الوحيد الذي يملك الحقيقة والخبرة والمعرفة، وقد قابلت من الأجلاء الذين بعد تنحيتهم بقي القلم الأخضر ملازماً لطاولاتهم وأيديهم. فهم لا يحبون سواه، ولا يوقعون بغيره، بل إن بعضهم لا يعترف بأي شخصية جاءت بعده إلى الموقع الذي كان فيه، مهما كانت مكانة من جاء بعده!!
الحياة تستمر بنا وبغيرنا، ولا تنتظر أحداً، ولا تقف عند واحد، وما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في بكائه على إبراهيم، يرويه مشايخنا على مكانة إبراهيم والنبي، ولكن الرواية الحقيقية يجب أن نسمعها ونرويها ونرددها على أنها عبرة للجميع، فمهما كانت قيمة الإنسان لابد أن يغادر ويرحل عن هذه الدنيا، ومهما كان لون قلمه، ومهما صرخ وتجبر وتكبر، ومهما ملك وعرف من معارف، فالفراهيدي الذي سكنت اللغة رأسه رحل، وسيبويه الذي سكنه منطق القواعد رحل، ونيوتن رحل، وبيكاسو رحل، ودالي رحل، ونيرون غادر، وبقيت اللغة والنحو ومنطق التفكير والجاذبية واللوحة، وروما التي وصفها الشاعر العربي رمزاً للبقاء «ولم تزل روما بعينيها تقاتل»!
غورو الذي ضرب الأرض بقدمه في دمشق غادر غير مأسوف على ما تركه، وساراي المندوب رحل، وهتلر وموسوليني وديغول ولينين وماركس من قبل، وها نحن نقلب الصفحات عن هؤلاء وعن سواهم، فما تركوه لنا من علم وفكر بقي، وما مارسوه في حياتهم ذهب معهم، مع الجسد رحلت كل ملامح الجمال والقوة والقباحة والجبروت، ولم يبق سوى مدائح يلقيها المادحون، أو لعنات ترددها الأجيال..! بقيت لوحات دافنشي وأنجلو وكل المبدعين في المتاحف والصالات والصالونات، وبقيت جمجمة سليمان الحلبي قاتل كليبر، المناضل السوري الكبير في متحف كما أراد الفرنسيون، أرادوه عبرة، والتاريخ الإنساني المقاوم رآه رمزاً، وفي كلا الحالين لا يهم بقاؤه، ولا يهم ما رسمه الفرنسيون لبقائه، فقد غادرت حملاتهم المستعمرة مصر مرغمة، وسليمان الحلبي رمز من الرموز.
ذهب كليبر، ذهب غورو، ذهب نابليون بكل صولاته وجولاته، وذهب سليمان الحلبي، وذهب الشيخ محمد عبده والكواكبي والعقاد وطه حسين، وعلى مدى التاريخ الطويل الممتد يذهب أناس ويأتي أناس، وما بين المجيء والذهاب رحلة من الحياة والعطاء، رحلة أرادها الخالق لتكون مسرحاً لإبداع الإنسان، ولم يردها معبراً صامتاً للقادمين، فالجدوى من الحياة عند الله أسمى بكثير من الصورة التي نقلت لنا عبر العلماء في مختلف العصور، فالجن والإنسان للعبادة، والعمل عبادة، والجد عبادة، والحب عبادة، والعلم عبادة، ونفع الناس للناس عبادة، وما يحث عليه علماء الدين واللاهوت صورة من صور العبادة، وهي الطقوس وليست الطقوس هي العبادة، إنما هي الصورة التي يقفها العبد بين يدي سيده بعد أن عاش سحابة وقته ويومه وعمره في العبادة، العبادة الحقيقية في العلم والكد والعمل والحب للحياة والإنسان.. الطقوس ليقف الإنسان محاسباً نفسه فيما فعل في عباداته الآنية ليغير ويبدل ويعدّل.. وربما كان حصر العبادة في الطقوس وراء تجبر الجبابرة، وقسوة الظالمين وخوف الضعفاء، ففوق هذه الطقوس يمكن للمرء أن يحيا بسيطاً هامشياً فيبقى ابن الغني غنياً، وابن المسؤول مسؤولاً، وهذا ليس بدعاً لدينا، وإنما في العالم ومن يعد إلى سلالات الحكام في أميركا وأوروبا يجد هذا الأمر واضحاً، فالأسر موجودة ومتواصلة وتتوارث مجدها وخيباتها، فمن أسرة واحدة أكثر من مرحلة من مراحل تلك البلدان.
مضوا وبقيت آثارهم..
رحلوا والناس تسرد ما كان منهم في تلك الحقبة التي عاشوها.
لا أبحث عن العبرة والاعتبار، فذاك أمر بعيد ولا يجدي ويجب أن يصدر عن الحكماء ولكنني أبحث عن الفرص في الحياة، وفي أسباب الأشياء، ونتائجها، وحصيلة ما كان بعد رحلة صاخبة لم تعطِ صاحبها من صخبها سوى الضجيج الذي يصم الآذان، وعن حياة كانت ساكنة بكل ما فيها، فلم يأخذ صاحبها سوى السكون والضعف والصمت، وترك علامات استفهام حول جدوى مثل هذا المرور إن كان صاخباً أو صامتاً، ولا يمتلك المنجز الإنساني الذي يليق بإنسانية الإنسانّ وربما كان العزاء الوحيد لمن كان معه بأن شيئاً ما ينتظره في آخرته لأنه كان طيباً، أو لأنه كان سيئاً، ومهما كان المؤمل من المحيطين فإن الحقيقة التي لا يقف عندها أصحاب المصالح والمطامع هي أن الجزاء الإنساني يتم اقتصاصه كما ورد في الذكر «يا أولي الألباب».
المهم أن نتفهم قضية القدر والحتمية، فهو لاشك فيه، ولكننا نحن الذين نختار أن نسير الدرب بهدوء وتؤدة وعمل دؤوب، أو أن نسيره بجعجعة وبكاء ومظلومية ومغادرة غير مأسوف عليها وعلينا.