الحرب.. من وعي الذات إلى وعي القضية
| د. مازن جبور
الوعي، هو إدراك الواقع اعتماداً على العقل، وقد يكون حقيقياً أو زائفاً، إلا أنه أيّاً كان فهو بات يرتبط بمؤثرات مختلفة منها الجاذبية والاقتناع، وليس بالإرغام أو التلقين، فنهضة الدولة في عالم اليوم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأفكار والقيم التي تشكل وعي المواطن، فالدول قد تنهار بهزيمة الفكرة التي تقوم عليها، من دون حتى أن تشن حرباً ضدها.
إن قضية الوعي، قضية جمعية، تخص المشترك بين أبناء الوطن، على الرغم من أن أساسها فردي، فهي ليست مسألة بأبعاد مختلفة، ونقطة البداية فيها هو التاريخ، أي برؤية العقل الجماعي للتاريخ الوطني، ودرجة التوافق على تفسيره، وعلى رموزه، ومن هنا تنبع فكرة الدولة، أي القيم الأساسية التي تقوم عليها، والتي تُعد محل توافق كبير بين المواطنين.
في هذا السياق تمثل قضية فلسطين، قضية وعي لا خلاف عليها، قضية وعي قومي عربي، وقضية وعي للأمة الإسلامية وللأمة المسيحية، بناءً على تاريخها العربي وعلى موقعها المقدس بالنسبة للأمة الإسلامية وللأمة المسيحة، ومن ثم هي قضية وعي فردي لكل حر أولاً، ولكل مسلم ومسيحي ثانياً ولكل عربي ثالثاً، وهذا الوعي بالقضية هو وعي تاريخي، يجب أن يتصدى لكل محاولات الوعي المضاد الذي يحاول الآخرون دسه في العقول، بالتوقف عند نقطة تاريخية محددة هي السابع من تشرين الأول عام 2023، أي موعد انطلاق عملية طوفان الأقصى.
ما سبق بني على سرديات هدفها تشويه الوعي من قبيل وصف عملية طوفان الأقصى بـ«المغامرة» التي قامت بها المقاومة الفلسطينية، واليوم تستمر السردية تحت عنوان «مغامرة» المقاومة اللبنانية، حتى يطرح الأمر على الفضائيات بقلب الحقائق فتصبح المقاومة سبباً للاحتلال وليست نتيجة له، ويصبح قادتها «إرهابيين»، وليسوا أبطالاً قُتلوا بجرعة شرف زائدة دفاعاً عن قضيتهم، ويتحول الصراع من صراع وجودي حول رمزية فلسطين، وحول إحقاق الحق ورفع الظلم عن شعب أعزل سلب أرضه وحقوقه، إلى صراع إقليمي بين «إيران الشيعية» و«إسرائيل»، أي نقل الصراع من جوهره وهو فلسطين ومقدسات فلسطين، إلى عناوين هامشية.
ما سبق يضعنا أمام تحد وجودي، هو تحدي الوعي بالقضية، تحدي مواجهة بناء وعي جديد، يغير في المصطلحات والمفاهيم، فتصبح معه القضية «عبئاً» على المجتمع، ويصبح معه الذكاء في الانفكاك منها، فتحل الخيانة قيمة بدلاً من صون القضية، ويحل الجبن قيمة بدلاً من الشجاعة، وهكذا، والأخطر أنهم بدؤوا بتعميمها على المجتمع، أي تحويلها إلى قضية وعي جمعي، خصوصاً أنهم يمتلكون أدوات الإقناع والجاذبية، الكفيلين بتشكيل وعي زائف.
هنا تحضر مهمة الجميع من دول ومؤسسات وأفراد، في خلق وعي مشترك، بالترويج لمجموعة القيم الأساسية التي يقوم عليها المجتمع وتميزه عن غيره، وكذلك عدد من السلوكيات التي يتم تشجيع النشء على ممارستها، ويتطلب إعداد مثل هذه المناهج رؤية وخبرات متعددة، إذ إن قضية الوعي لها أبعاد كثيرة، منها الجزئي المتعلق بالوعي في قضايا محددة ومعاصرة أو أحداث جارية قد تكون سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.. إلخ، وهذه من السهل التعامل معها من خلال الأسلوب العلمي وطرح الحقائق باستخدام أدوات التواصل الحديثة والتقليدية، ولكن تظل قضية الوعي الكبرى هي تلك المتعلقة برؤية التاريخ الممتد، ورموزها، وهويتها الوطنية، ومشروعها الحضاري، والقيم التي تستند عليها.
فمثلاً مع مرور الأيام على حرب غزة، يمكن لحظ عملية وعي ووعي مضاد بشأن القضية، إذ حصلت عملية تغيّر تدريجي في موقف الأفراد والمؤسسات وحتى الإعلام في الغرب بشكل عام من مناصرة إسرائيل إلى فهم واقعي لجوهر القضية الفلسطينية، على حين بدأ البعض من أصحاب القضية «العرب» بحرف بوصلتهم إلى قضايا هامشية، والشروع بعملية تشكيل وعي مضاد من خلال ما أشاعوه بشأن الصراع، إذ حاولوا حرف القضية عن صلبها وهي الاحتلال، حتى إن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أقر بأن جذر المشكلة هو الاحتلال والوضع الإنساني المتردي الذي وصلت إليه أغلبية الفلسطينيين تحت الاحتلال، الأمر الذي أثار غضب إسرائيل مطالبةً باستقالته!
إن موضوع الوعي له أهمية كبيرة ترجع إلى التوقيت، ففي الآونة الراهنة العالم كله يواجه تحديات ذات طبيعة مختلفة، وخاصة منطقة الشرق الأوسط، ومن خلال الوعي نستطيع تغيير القيم السلبية وزيادة القيم الإيجابية، وقضية الوعي بحد ذاتها ترتبط بالجانب الثقافي، فالحروب الحديثة لا تعتمد على الصدام العسكري فقط، بل تعتمد على الشائعات المغرضة والأخبار المغلوطة والتشكيك في القدرات، هذا النوع من الحروب أكثر تأثيراً في الشعوب، ويمثل الوعي خط الدفاع الأول ضد هذا النوع من الحروب، الأمر الذي يتطلب أن يكون هناك دور لمؤسسات الدولة جميعها كل في تخصصه، لذلك نحن بأمس الحاجة إلى عملية تنسيق وإشراف على عملية رفع مستوى الوعي من خلال المؤسسات العاملة في الدولة، وذلك بناءً على إستراتيجية شاملة، يكون هدفها ليس فقط رفع مستوى الوعي بالتطورات الراهنة، بل حماية الوعي القائم الذي تم إكسابه للمجتمع على مدى عقود وقرون خلت.
أخيراً، فإن مقولة «اعرفْ نفسكَ»، المنسوبة إلى الفيلسوف اليوناني سقراط، تحمل حكمة عميقة حول أهمية وعي الذات، والتأمل في الأبعاد الروحية والوجودية للإنسان، وذلك لتطوير نفسه وتنميتها، نستنتج منها أن الوعي مسؤولية ذاتية قبل كل شيء، ومن ثم تصبح مسؤولية جماعية، وبالتالي يمكن سحب المقولة لتصبح، اعرف مجتمعك، واعرف تاريخك، واعرف قضيتك… إلخ.
كاتب سوري