هل من تمايز أميركي- غربي فرنسي؟
| عبد المنعم علي عيسى
لعبت فرنسا- ديغول دوراً داعماً لقيام الكيان الصهيوني منذ الإعلان عن ولادته في أيار من العام 1948، ولا بد في هذا السياق من الإشارة إلى أن باريس كانت إحدى أهم البؤر التي استند إليها هذا الأخير للحصول على الأسلحة والتكنولوجيا الضامنتين لدوام تفوقه على محيطه الذي انغرس فيه كنوع من الحل لـ«المسألة اليهودية» التي برزت بقوة في أتون الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها، وكذراع قادرة على تطويع المنطقة وقولبتها بشكل خادم للمصالح الغربية، ولعل من المفيد ذكره في هذا السياق هو أن باريس كانت قد أشرفت وموّلت منتصف الخمسينيات من القرن الماضي إنشاء مفاعل «ديمونا» بصحراء النقب الذي أدخل الكيان الوليد في «العنصر النووي» بكل الحمولات التي يدفع بها هذا الأخير على المجتمع وقواه العلمية والصناعية، وعندما حدث العدوان الثلاثي عام 1956 كانت باريس أحد أضلاعه الثلاثة، ولعل ذلك كاف لإثبات العلاقة العضوية القائمة ما بين باريس وتل أبيب، والتي من الصعب اختلالها وإن أظهرت بعض المواقف شيئاً من الانزياح الذي قد يفسره البعض على أنه تحول على السياسة الفرنسية تجاه المنطقة والصراع الدائر فيها.
قرأت حكومة شارل ديغول حرب حزيران 1967 على أنها ارتماء إسرائيلي، لا عودة منه في «الحضن» الأميركي، والراجح هو أن ديغول كان قد فكر في إحداث تحول في سياسته تجاه الصراع العربي الإسرائيلي في أعقاب تلك الحرب، خصوصاً بعد أن تكشف لديه أن تل أبيب لم تعد «حصناً» غربياً بل أميركياً بالدرجة الأولى، والراجح أيضاً أن تفكيره ذاك هو الذي قاد إلى «معاقبته» عبر التظاهرات التي عمت باريس، ومدناً فرنسية أخرى، في شهر أيار من العام 1968، والتي أدت إلى فراره سراً إلى ألمانيا، وعندما عاد، أواخر ذلك الشهر، كانت «الديغولية»، من حيث إنها محاولة للاستقلال عن الغرب، قد انتهت إلى غير رجعة، وما جرى هو أن كل الحكومات الفرنسية التي تعاقبت على السلطة بعدها كانت قد فهمت الدرس واستوعبته تماماً، وعليه فقد ظل الموقف الفرنسي رهين «الهوامش» التي يمكن لواشنطن أن تعطيها لباريس، فيما إعلاء السقف عند الأخيرة كان على الدوام مؤشراً على تضارب ما فيما بين المصلحتين الفرنسية والأميركية، وهو لا يلبث أن يزول إما عبر تقديم «قطعة جبن» أو بتأثير الضغط الذي غالباً ما كان يجبر باريس على الصمت وابتلاع المرارة.
منذ انطلاق «طوفان الأقصى»، شهر تشرين أول من العام المنصرم، راحت تصدر عن باريس بعض المواقف الخجولة، والتي ارتفع سقف البعض منها على وقع المجازر التي ملأت صورها الشاشات، وكان من الصعب تجاهلها من قبل «عاصمة النور»، لكن السقوف ظلت تحت تلك التي ذهبت إليها بلدان أوروبية عدة، مثل إسبانيا وإيرلندا، عندما أعلنت عن اعترافها بالدولة الفلسطينية، والفعل من حيث النتيجة كان يرمي للبحث عن دور فرنسي ما يرتسم حداه ما بين المقبول أميركياً وبين الحفظ لماء الوجه، من دون أن يعني ذلك أن هذا الأخير مهم بدرجة قد تؤثر في الممارسة السياسية التي وجدت باريس نفسها من خلالها محشورة بدرجة تكاد الخيارات معها أن تضيق فتفضي إلى محصلات صفرية، فباريس لم تستطع الابتعاد عن الخطاب الغربي حيال حرب غزة، والذي صورها على أنها حرب «حضارية» ضد الآخرين، الذين لا يقصد بهم هنا سوى المسلمين، ولأن فرنسا تضم إحدى أكبر الجاليات الإسلامية في أوروبا، ولأنها أيضاً تعيش إرهاصات «الإسلاموفوبيا» التي روج لها المركز الأميركي، فإن باريس وجدت أن «زاوية» الحشر هي أضيق مما يتسع لأي دور، ومن أي نوع كان.
مع توسع دائرة الحرب صوب لبنان ذهبت باريس نحو إجراء عملية «روداج» لمحركها المتعب بفعل المواقف «الذيلية» آنفة الذكر، فللبنان حضور قوي في الذات الفرنسية التي لا تزال تصر على وجود وشائج تربطها بهذا الأخير، على الرغم من أن لبنان اليوم لا يكاد يشبه ذاك الذي ارتبطت معه بتلك الوشائج، الأمر الذي ظهر من خلال «صدام» فرنسي-إسرائيلي كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حريصاً على إدارته شخصياً، والفعل، الصدام، لا ينم على الإطلاق عن تحول في الرؤية الفرنسية تجاه الصراع الدائر وجذوره، فباريس ماكرون لا تزال ترى في هذا الصراع ساحة للحرب «على الإرهاب»، وكل ما يصدر عنها يؤكد على أن مرحلة ما بعد ديغول، الذي قال إن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية هو جذر الصراع الدائر في الشرق الأوسط، لا تزال سارية المفعول، وإن من الصعب انتشال تلك الرؤية بعد كل هذا الركام الذي أهالته عليها الحكومات الفرنسية المتعاقبة على مدى يزيد على نصف قرن.
جل ما في الأمر هو أن ثمة تشاداً ما بين الموقفين الإسرائيلي والفرنسي، فرئيس حكومة كيان العدو بنيامين نتنياهو يريد قطع الطريق على أي دور فرنسي يمكن أن يفضي إلى وقف لإطلاق النار في لبنان، في حين يسعى ماكرون لانتزاع دور ما في ظل انشغال الولايات المتحدة بانتخاباتها التي باتت على الأبواب، والسعي إياه تزداد «مشروعيته» بعد الانتكاسات التي شهدها النفوذ الفرنسي في القارة السمراء قبيل نحو عامين من دون أن يعني ذلك أن «السلسلة» قد توقفت عند تلك الحدود، فترابط السلسلة يبقى محكوماً بعدم انفراط أي من حلقاتها، والفعل النقيض يحتم على الدوام تتالي انفراط عقدها بفترة تطول أو تقصر تبعاً لاعتبارات عديدة.
كاتب سوري