«اتفاق إذعان» جديد يدق باب بيروت بعد 41 عاماً
| علي عدنان إبراهيم
مع إحكام هتلر السيطرة على معظم غرب القارة الأوروبية منتصف الحرب العالمية الثانية وانتقاله لمحاولة غزو بريطانيا التي كان يفصله عنها بحر المانش فقط كان ينقص الزعيم النازي أسطول بحري ينقل جنوده إلى السواحل البريطانية ففضل قصفها بالطيران والصواريخ وحاول إركاعها بالمفاوضات تحت النار، حينها قال رئيس الوزراء البريطاني العجوز ونستون تشرشل: «لا يمكن التفاوض مع النمر ورأسك داخل فمه»، وصمدت بريطانيا حتى انقلبت الموازين وتغيرت المعادلة وخسر هتلر الحرب.
ومع فارق التشبيه بين الحالتين إلا أن لبنان يتعرض اليوم لحرب مدمرة في الوقت الذي يطرح الإسرائيلي ومن خلفه الولايات المتحدة حلولاً دبلوماسية أقل ما يقال عنها إنها مجحفة وتعجيزية على المقاومة للتوقيع عليها بمقابل الوقف المؤقت ربما للقتل والتدمير، وهذا ما أكده وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت قبل أيام حين قال: «إسرائيل لن توقف القتال ضد حزب اللـه اللبناني، وإن أي مفاوضات بهذا الشأن ستجرى تحت النار»، وعلى هذا الأساس شهدت الساعات السابقة لوصول المبعوث الأميركي إلى لبنان آموس هوكشتاين غارات إسرائيلية غير مسبوقة استهدفت عشرات المواقع في ضاحية بيروت الجنوبية والبقاع والجنوب كرسالة إسرائيلية مصاحبة لما قدمه هوكشتاين للبنان مفادها إما التدمير الكامل أو الإذعان الكامل.
هوكشتاين أعاد فرد القرار 1701 على الطاولة أمام اللبنانيين ليوافقوا عليه ويجروا حزب اللـه ليتخلى عن سلاحه بشكل كامل ممهداً الأرض أمام الجيش الإسرائيلي ليعيد سيناريو ثمانينيات القرن الماضي عندما احتاج وصول القوات الإسرائيلية إلى بيروت مسافة الطريق فقط من دون مقاومة تذكر من أحد حين كان إسقاط عاصمة عربية واحتلالها بالنسبة للإسرائيليين نزهة، حيث إن حكومة بنيامين نتنياهو وما سبقها من حكومات خلال 75 عاماً من عمر الكيان أثبتت جميعها أن قرارات الشرعية الدولية لا تساوي عندها الحبر الذي كتبت به، وما يرغمها على الخضوع هو القوة فقط، والمؤكد أن ما سيجعل الجنود الإسرائيليين يتراجعون إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة هو بأس رجال حزب اللـه المقاومين لا نزول لبنان تحت القرار الأممي، وأن ما سيلجم الوحش الدموي الإسرائيلي ويعيده إلى الحظيرة، كما قال نائب الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، هو المقاومة فقط وصواريخها وصبرها وصمودها لا الوعود الفارغة التي يأتي بها المبعوثون من كل مكان ليملوا الشروط على لبنان في الوقت الذي تواصل فيه طائرات الـ35F شن الغارة تلو الغارة على الجنوب والبقاع والضاحية.
المبعوث الأميركي أكد أن مستقبل لبنان وربطه بالنزاعات لا يمكن أن يكونا في مصلحة اللبنانيين، بما يعنيه ذلك من ضرورة تسليم رأس حزب اللـه لإخراج لبنان من صورة الصراع مع إسرائيل وجعله بلداً لطيفاً محايداً من دون أنياب أو مخالب، مضيفاً إغراءً لا يمكن مقاومته بالقول: إن «واشنطن والمجتمع الدولي ملتزمان بإعادة بناء لبنان» ما سيعطي ورقة إضافية لطاعني المقاومة من الخلف بالقول: إن المقاومة لم تحقق أي نجاح في الحرب بل جلبت الوبال والدمار والنزوح على لبنان المنهك اقتصادياً منذ سنوات واليوم تفرط بكنز يسمى إعادة الإعمار تعرضه الولايات المتحدة الأميركية شخصياً.
إلا أن هذا الحديث ليس إلا رأس الجبل الجليدي، أما جسم هذا الجبل فهو ما حملته وثيقة المبادئ التي أرسلتها إسرائيل إلى الولايات المتحدة والتي تتضمن شروط نتنياهو للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في لبنان، ومن هذه الشروط حسب ما جاء في الوثيقة، السماح للنازحين من الاتجاهين بالعودة إلى منازلهم حيث يعود الإسرائيليون إلى مستوطنات تعرضت لدمار طفيف وبقدرات دعم مادية هائلة لترميم كل شيء، بينما يعود اللبنانيون إلى قرىً نُسفت عن بكرة أبيها مع وعود أميركية فارغة بإعادة الإعمار لا يمكن لأحد في الدنيا ضمان تنفيذها، إضافة إلى فتح المجال الجوي والبحري اللبناني أمام سلاحي الجو والبحر الإسرائيليين بشكل شرعي بعد أن كانا يتجولان فيهما بشكل غير شرعي، والأخطر من كل ما سبق هو إعطاء إسرائيل الحق في المشاركة الفعلية بتجريد حزب اللـه من سلاحه ومنعه من تجميع نفسه وتسليح عناصره مجدداً، أي استسلام لبناني بالطول والعرض لإسرائيل، واستباحة إسرائيلية بكل الاتجاهات للبنان، فهل هكذا يكون السلام أم الاستسلام؟
حزب اللـه الذي سلم قيادة مفاوضاته لرئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري يعلم مسبقاً المحاولات الأميركية والشروط الإسرائيلية، وفي الميدان يأتي الرد عليها بتصعيد العمل العسكري وإطلاق الصواريخ النوعية ضمن سلسلة عمليات خيبر المرعبة لإسرائيل والهادفة لجعل حيفا كريات شمونة ثانية، وهو يعلم تماماً أن الثمن وإن عظم، لن يكون أعظم من الاستسلام والتخلي بعد كل ما تم تقديمه من تضحيات لو طالت الحرب ولو استمر شلال المال والدعم العسكري بالتدفق على إسرائيل التي وصلت إليها خلال الساعات الأخيرة منظومة (ثاد) الأميركية المضادة للصواريخ البعيدة المدى، ونحو 9 مليارات دولار أميركي تكفي لتجهيز جيش لا يقهر في منطقة تعيش فيها الجيوش داخل الدول المقارعة لإسرائيل أزمات اقتصادية خانقة، أما الرئيس بري فله تاريخ طويل مع محاولات إخضاع لبنان قادها جميعاً إلى بر الأمان من دون أن تخدش كرامة اللبنانيين ومرحلة الحرب الأهلية وما تلاها من اتفاق الطائف وحروب التحرير وتموز كلها شاهدة على ذلك.
إلا أن الواضح أن العدو ومن خلفه الإدارة الأميركية والمرتمون في أحضانهما من خونة الداخل جميعاً لا يقرؤون التاريخ أو أنهم يعانون مرضاً في الذاكرة فينسون أو يتناسون مرحلة اتفاق الإذعان قبل 41 عاماً حين لم يكن حزب اللـه موجوداً بعد، وإن وجد فلم تتعدَ أسلحة عناصره البندقيات الآلية والرشاشات، وكانت قرار البلاد بيد الموافقين على التطبيع والتسليم، ليأتي الرد الشعبي المدعوم بقرار زعيم حركة أمل حينها نبيه بري والسند السوري بقيادة القائد الراحل حافظ الأسد ليتم إسقاط هذا الاتفاق الذي كان سيتيح لإسرائيل منذ ذلك الحين سوق لبنان إلى حظيرة المطبعين ورفع علم الكيان في بيروت ووضع خنجر مسموم في خاصرة سورية التي كانت تعاني حرباً إرهابية يشنها الإخوان المسلمون ومن خلفهم، وما أشبه اليوم بالأمس، وكما قال الرئيس بري بعد لقاء هوكشتاين والاستماع إلى ما جاء به: «العبرة في النتائج».