أيام تفصل أميركا عن محطة فارقة
| عبد المنعم علي عيسى
منذ الإعلان عن قيام الولايات المتحدة الأميركية، قبل نحو 250 عاماً، لم يشهد ذلك الكيان ظاهرة أشد خطورة عليه، من الناحيتين البنيوية والتركيبية، من ظاهرة صعود دونالد ترامب التي تمثل في جوهرها نمواً لتيار شعبوي، وهو يستند في صعوده إلى خطاب يستميل العواطف ويوقظ فيها روح الإثارة والجموح بغض النظر عن واقعيتها أو صلاحيتها للتطبيق، والظاهرة إياها لم تنفرد بها البيئة الأميركية، بل لربما كانت بيئات أميركا اللاتينية وأوروبا هي الموطن الأصلي لها، لكن الجديد الأميركي في الأمر هو أن ترامب استطاع تجيير تلك الظاهرة وقولبتها في سياق التأسيس لجبهة عريضة في مواجهة «الدولة العميقة» التي كثيراً ما أعلن عن أن مؤسساتها هي التي تحول ما بينه وبين تحقيق الطموحات العليا للشعب الأميركي.
كانت ميول ترامب الرافضة للمعايير الانتخابية السائدة في البلاد قد برزت بوضوح منذ حملة انتخابات العام 2016، التي خاضها في مواجهة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، وفي حينها جاء رده على سؤال يتعلق بسلوكه فيما لو خسر الانتخابات على النحو التالي: «سنرى ما يمكن فعله في تلك اللحظة، لا أستطيع أن أجزم لك الآن بالرد»، والجواب وحده يشكّل خروجاً تاماً عن أحد المرتكزات التي تقوم عليها عملية تداول السلطة في الولايات المتحدة، فالعرف، الذي أضحى تقليداً ومؤشراً بارزاً على رسوخ «الديمقراطية» الأميركية، يقول بأن يقوم المرشح الخاسر بتهنئة نظيره الفائز، الأمر الذي يساعد في تفريغ الشحنات التي ستشهدها البلاد على مدار ما يزيد على ستة أشهر جراء حالة الاستقطاب التي تستدعيها الحملة الانتخابية، والتي تصل في بعض الحالات إلى مستويات عليا قد تؤدي إلى تراكم «الندبات» على السطوح ما لم تجر معالجة صحيحة لها، وعندما خسر أمام الرئيس جو بايدن في انتخابات 2020، كانت السلوكية تقول إن ذلك الميل قد ازداد بشكل حاد، فهو مضى نحو الطعن بنتائج الانتخابات التي قال إنها شهدت تزويراً من النوع الذي أثر على نتائجها، بل إنه حاول استمالة نائبه، مايك بينس آنذاك، لدعمه في البقاء على رأس السلطة بغض النظر عن نتيجة الانتخابات، ولما لم يستمع هذا الأخير إليه مضى نحو التحريض على اقتحام «الكابيتول»، مبنى الكونغرس، الذي يمثل رمزاً أولاً للنظام الأميركي، بكل ما يحمله الفعل من مخاطر جر البلاد إلى حرب أهلية في الوقت الذي كان فيه هكذا احتمال يبدو غير مستوف لشروطه، الأمر الذي يفسر هدوء الحالة سريعاً في أعقاب تلك المحاولة على الرغم من خطورتها، لكن الميل الآن، بعد أربع سنوات على تلك «الواقعة»، يبدو أكثر حدة، فترامب أعلن، لمرتين على الأقل، بأنه لن يعترف بنتائج الانتخابات إذا ما كان هو الخاسر فيها، والإعلان يعني أن البلاد ستدخل في أتون أزمة سياسية كبرى إذا ما خالفت صناديق الاقتراع أهواء المرشح الجمهوري.
ما يزيد من احتمالية هذا الأمر الأخير هو أن استطلاعات الرأي الأخيرة تشير إلى حظوظ متقاربة لكلا المرشحين، وأن احتمالات فوز أحدهما على الآخر شبه متساوية، الأمر الذي يتيح الفرصة، لمن يريد، في التشكيك بالنتائج، ولعل ترامب سيكون هو الطرف الفاعل بالتأكيد، الأمر الذي يمكن تلمسه في تصريح أدلى به قبل نحو أسبوع وقال فيه: «لدينا بعض الأشخاص السيئين، ولدينا بعض الأشخاص المضطربين، مجانين اليسار المتطرف، وأعتقد أنه إذا لزم الأمر يجب التعامل معهم ببساطة من قبل الحرس الوطني، أو إذا لزم الأمر أكثر من قبل الجيش الأميركي»، وهو الأمر الذي دفع بجو بايدن للقول: إنه «لا يعرف إذا ما كانت تلك الانتخابات ستكون سلمية، أم لا»؟!
في كل الانتخابات التي أوصلت 46 رئيساً للولايات المتحدة حتى الآن، لم يسبق أن وصلت البلاد إلى شفا أزمة سياسية حقيقية، باستثناء انتخابات العام 2000 التي أوصلت جورج بوش الابن إلى سدة السلطة في واشنطن، وفيها اضطر الطرفان للجوء إلى المحكمة الدستورية العليا لفض الخلاف الحاصل، ومع ذلك انتهى الإشكال بعد قبول الطرفين بقرار المحكمة الذي أعلن عن فوز بوش الابن في تلك الانتخابات، واليوم تبدو التباشير الراهنة بأن البلاد ستدخل في أتون أزمة قد لا تستطيع المحكمة الدستورية العليا حلها، فترامب لا يعترف أصلاً بأهلية مؤسسة كهذه لفض نزاع كهذا، وهو يرى نفسه فيه «صاحب الحق» حتى قبيل أن تنطلق العجلة الانتخابية.
المؤكد أن ظاهرة ترامب ليست فردية، بل هي نتاج لواقع مجتمعي سياسي مأزوم، ومن الممكن القول إنها من خلال تطوراتها التي شهدتها حتى الآن تلعب دور «جرس» الإنذار الذي يجب تلمس خطره جدياً، وهي تشير إلى ضرورة معالجة الكثير من الثغرات بدءاً من النظام الانتخابي الذي لم يعد ملائماً لتطور المجتمع الأميركي، ووصولاً للقوانين الناظمة لمراكمة الثروة والمال التي باتت الظواهر التي تفرزها تهدد بوجود مراكز، وربما أفراد، قادرين على لعب دور يفوق ذاك الذي تقوم به مؤسسات الدولة، إذ كيف يمكن لشخص، إيلون ماسك مثلاً، أن ينتقل من ثروة 28.5 مليار دولار عام 2020 إلى ثروة 320.8 ملياراً عام 2024؟ وكل ذلك وفقاً للقوانين المرعية، حيث لم يثبت العكس، أقله حتى الآن.
كاتب سوري