من دفتر الوطن

شجرةٌ مُرَّة ثمارها حلوة

| حسن م. يوسف

الكتابة شجرة مُرَّة، لكنها تعطي بين وقت وآخر ثماراً حلوة، بل إنها في بعض الأحيان تثمر أخوة، كما حصل معي في دبي قبل بضعة أشهر. أعترف أن تجربتي مع الحروف بالغة المرارة، لكنها رغم طبعها الحنظلي، تكرمني بين وقت وآخر بإشارة تسند قلبي. وما أحوجني لإشارة من هذا النوع في هذه الأوقات الكالحة التي تعصف بنا مع كل فصل من فصول الجريمة المنهجية التي يقترفها الكيان السرطان بحق أهلنا في فلسطين ولبنان.

قبل فترة تلقيت عبر بريد الفيس بوك رسالة من الدكتور حمدي نوفل أستاذ التوليد وأمراض النساء في كلية الطب، جامعة حلب، جاء فيها: «عادة ما أستقبل طلابي الوافدين إلى كلية الطب بمحاضرة افتتاحية… وأفتتح لهم هذه المحاضرة بقصة قيام الدكتور عبد الرحمن الشهبندر بإنقاذ طفل من بطن امرأة حامل أثناء مروره بضحايا مجزرة الأرمن… كنت قد شاهدت هذه القصة في مسلسل «إخوة التراب» الجزء الأول.. بصراحة لم أجد شخصاً قد يؤكد لي أو ينفي صحة هذه القصة وقررت اللجوء إليك لتساعدني لو سمحت بما أنك كنت كاتب العمل».

أعترف لكم أن هذه الرسالة قد أبهجتني حقاً لأنها تأتي من رجل علم بعد مرور نحو ثلاثة عقود على كتابة المسلسل. رددت على الدكتور نوفل قائلاً: من المعروف أن د. عبد الرحمن الشهبندر كان الطبيب الخاص لجمال باشا، وعندما علم أن رفاقه- الذين أصبحوا فيما بعد شهداء السادس من أيار بعد أن شنقهم جمال باشا السفاح – قد ألقي القبض عليهم في محطة معان، أدرك أنه قد يلقى القبض عليه بدوره قريباً، لذا قرر الهروب باتجاه العراق عن طريق القريتين. وفي أثناء الرحلة هاجمه البدو وشلحوه. ونظراً لوجود شخصية في المسلسل هي صبحي العمري كان البدو قد شلحوه عندما فر من العقبة للالتحاق بثورة الحجاز، فقد اضطررت لتغيير اسم الدكتور الشهبندر فسمَّيته عبد اللـه عطر الشام، وجعلت رحلته تتزامن مع مذبحة دير الزور.

كما أوضحت للدكتور نوفل، أن هروب الدكتور الشهبندر عبر البادية لم يكن متوافقاً مع يوم وقوع مذبحة دير الزور وأن قصة المرأة الأرمنية الحامل هي من بنات أفكاري، لأنني أردت من خلال حكايتها أن أقول بلغة الدراما إن حكاية الشعب الأرمني مستمرة رغم المذابح التي اقترفها الطورانيون الأتراك بحقه.

أبدى الدكتور نوفل استغرابه لما قلته، وأبلغني أن الإجراء الجراحي الذي قام به الدكتور عبد اللـه عطر الشام في المسلسل هو إجراء سليم علمياً وطبياً، فأبلغته أن أهم واجبات الكاتب الدرامي أن يستشير أصحاب الاختصاص في الموضوعات التي يفتقر فيها للخبرة والمعرفة. كما رويت للدكتور نوفل ما حصل معي عندما ذهبنا إلى حلب لحضور تكريم مطرانية الأرمن لنا. بعد حفل التكريم كنا مرتبطين بموعد، فجاء شخص وطلب مني أن أنتظر قليلاً لأنه يريد أن يعرفني على عبد الله. سألته: أي عبد اللـه يقصد؟ فأبلغني أنه يقصد عبد اللـه ابن الأرمنية المذبوحة! جفلتُ وتراجعت إلى الخلف من شدة الذهول وعدم التصديق وقلت للرجل وأنا أسرع بالابتعاد: «لا أريد أن أتعرف عليه» ومضيت لاحقاً برفاقي الذين سبقوني إلى السيارة.

في صباح اليوم التالي ونحن نستعد لمغادرة الفندق، اقترب مني في البهو رجل مربوع القامة وعلى وجهه ابتسامة عريضة، قال لي بمزيج من المودة والعتاب:» لماذا لا تريد أن تتعرف علي؟». حدقت بالرجل، وعندما تأكدت أنه لم يسبق لي أن التقيت به، قلت له باندهاش: « من حضرتك؟» قال: « أنا عبد الله»! والحق أن تحول عبد اللـه من شخصية متخيلة، إلى شخص من لحم ودم هو أغرب وأحلى الثمار التي قطفتها عن شجرة حروفي المرة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن