رباعيات الخيام في 97 ترجمة لـ93 من الشعراء والناثرين … بكار: مؤلفات الخيام من أهم ما كُتب بالعربية من رياضيات.. ومن أبعدها أثراً في الفكر الإنساني
| إسماعيل مروة
لم يحظ أثر عالمي وإنساني بالاهتمام كما حظيت «ألف ليلة وليلة» وكما حظي عمر الخيام، بل رباعيات الخيام، فالعناية كانت بالرباعيات وليست بالخيام، وهي تسوّغ وجه الشبه بين الرباعيات وألف ليلة وليلة من حيث النص، دون النظر إلى تأصيل النص لصاحبه كما في الرواية، أو التثبت من الرباعيات وأصالتها ومخطوطاتها وعددها وأصولها ونسبتها إلى الخيام أو إلى عصره، هذه الإشكالية التي بدأت من المخطوطات والعدد والنسبة، ولا يزال الخلاف مستمراً، ولم يعد النظر يتوجه إلى الخيام وعلمه ومنجزه بقدر ما يتوجه إلى الرباعيات.. وقد تساءلت يوماً: إذا أنجز الخيام كل ما أنجز، ولم تستمر سيرة الخيام! لا من خلال الرباعيات! فلو لم تكن الرباعيات فهل سمعنا بالخيام؟!
الرباعيات في العربية
بداية أعترف، وأنا متخصص، هذا الكمّ الكبير والمميز من ترجمات رباعيات الخيام الذي جمعه أستاذنا العالم الجليل يوسف بكار، فقد جمع 49 ترجمة شعرية للرباعيات و38 ترجمة نثرية لها، وعشر ترجمات شعبية زجلية، وهذا الجمع الخبير لا يخفى على واحد، وخاصة عندما نقرأ ترجمة نثرية للدكتور بكار نفسه، فهو ليس جامعاً فقط، بل هو المعني والمترجم والمتعمق في هذا الميدان.. منذ بداية العهد بالأدب تتلمذت على كتب الدكتور بكار وتحقيقاته النفيسة من اتجاهات الغزل، إلى شعر ربيعة الرقي إلى شعر زياد الأعجم وغيرها من الكتب، وهذا الكتاب الجديد في طبعته الثانية عن دار التكوين دمشق- الشارقة يفصح عن هوية الدكتور بكار في ميدان البحث والتحقيق والإنصاف كما سنرى.. اليوم لو سألنا كثيرين من المتخصصين في الترجمة أو العربية أو الفارسية أو الإنكليزية أو الفرنسية عن ترجمات الرباعيات، ربما يعدد المتخصص أربع ترجمات في أحسن الأحوال، ونسمع منه كلاماً تقويمياً لهذه الترجمات يدل دلالة قاطعة على أنه لم يقرأ ما يتحدث عنه، وإنما كان نقلاً عن نقل.. فماذا عن هذا الكتاب الذي أنجزه الدكتور الجليل يوسف بكار واستغرق منه سنوات وأسفاراً؟
المنهج والإحاطة
هذا العمل الموسوعي بجدارة استطاع أن يجمع هذا الكمّ الكبير من ترجمات الرباعيات الشعرية والنثرية والشعبية، واستلزم ذلك منه سنوات من الجهد والتعب والدأب والتنقير، وتهيأ له السفر إلى بلدان ومدن وأماكن بعيدة لإتمام الاستقصاء، وهذا ما جعل الكتاب أوسع موسوعة عن رباعيات الخيام وحدها، ووصلت الموسوعة إلى 750 صفحة من القطع الكبير وقد قسم الدكتور بكار كتابه إلى:
1-مداخل تنويرية: عمر الخيام والرباعيات /فيتزجيرالد وترجمته/ فن الرباعية في الفارسية/ الثنائيات والمثنيات والثلاثيات والمثلثات/ المربعات والخماسيات والمخمسات/ المسدسات والمسبعات/ نظام الدين الأصفهاني أول مترجم لرباعية من رباعيات الخيام/ الترجمات العربية تأريخ ومخرجات.
وهذا الفصل الذي أخذ ثمانين صفحة من الكتاب من الضرورة بمكان، وضرورته تأتي بالدرجة الأولى من خبرة المترجم والباحث، ولولا تمكنه العالي لم يكن هذا الفصل ممكناً، وأزعم أن هذا الفصل ضروري للغاية لفهم هذا الفن حتى لا يبقى عند القارئ من الطلاسم، إضافة إلى ما قدمه الدكتور بكار عن الخيام وإسهاماته العلمية، والرباعيات وظروف نشأتها، والبيئة الفكرية والاجتماعية التي عاش فيها الخيام، «لقد ثقف الحكيم وهذا أحد ألقابه الكثيرة، اللغة العربية وتعلم بها وعلّم، وحاور بعض علماء عصره وناظرهم وأجاب عن سؤالاتهم، ودوّن جلّ مؤلفاته العلمية والفلسفية وترجم منها إلى الفارسية، ونظم شعراً عربياً، في حين أنه لم يشتهر في الأعصر القديمة بأنه شاعر لا بما نظم من رباعيات فارسية، يكاد يوقن المحققون والباحثون الأثبات من الإيرانيين المحدثين أنها قليلة، ولا بشعره العربي القليل جداً، بل عرف واشتهر بعلوم الحكمة التي كانت تذهب آنذاك.. إلى الفلك والرياضيات والنجوم والطبيعيات والفلسفة وما يتصل بها جميعاً.. والأخبار والمعلومات عن نشأة الخيام وحياته الخاصة نزرة، ويستفاد من بعض روايات البيهقي أنه كان في تصرفاته وأخلاقه سيئ الخلق وأنه كان حفاظاً سريع الحفظ».
ويذكر الدكتور بكار في موضع آخر ما يحتاج القارئ معرفته «ليست القضية أن الخيام نظم الرباعيات أو لم ينظم، لكنها في عدد ما نظم، إذ جعل عدد الرباعيات يزداد مع الزمن حتى وصل، في أحد الآراء إلى 1200 رباعية تغص بأفكار فلسفية لأشخاص متفاوتين، وقد نسبت إليه نسبة عمياء حتى ظن المستشرق الألماني فريدريك روزن أنها قد تصل إلى خمسة آلاف».
هذا ضروري لمعرفة أسباب اختلاف العدد والرباعيات بين ترجمة وأخرى، وتعدد الأصوات فيها.
2- القسم الثاني شمل الترجمات والمنظومات العربية التي وصلت إلى 49 ترجمة شعرية منظومة لعدد من الشعراء العرب، فيهم المشهود والمعروف فيهم العادي، وفيهم من لم يعرف عنه غير الرباعيات المترجمة، ولولا جهد المؤلف لم يسمع به أحد ومجرد استعراض أسماء الشعراء الذين تحدث عنهم يظهر مقدار الجهد الذي بذله، والغنى الذي أضافه للمكتبة العربية، وقد وقفت عند عدد من هذه الأسماء احتراماً لما قدمته، ومن هؤلاء الفنان المصري القدير أحمد الخميسي، الذي عرفت من خلال هذا العمل أنه كان شاعراً ومترجماً قبل أن يكون ممثلاً، وترك دواوين شعرية، وكذلك الأمر مع ما فعله المؤلف مع عدد من الشعراء المغمورين الذين عرّف بهم، ويُحمد للدكتور بكار علميته، إذ كان حريصاً أن يخصّ كل ترجمة بعدد من المواقف:
أ- التعريف به ولادة ووفاة، أو ولادة وهو على قيد الحياة، أو وفاة إن جهل تاريخ ولادته، ويعرّف به وبرحلته العلمية وإنتاجه.
ب- يبين ترجمته واللغة التي ترجم عنها ويجيدها، إن كانت الفارسية أو لغة وسيطة، وربما كانت عن ترجمة عربية نثرية.
ج- النظرة التقويمية لكل ترجمة ومقارنتها بالنص الفارسي الأصلي للرباعية، وجلّ الأحكام كانت تتعامل مع النص ولا تعتمد آراء النقاد الذين سبقوا.
د- تحديد الأسبقية في الترجمة عند كل ترجمة، وبيان مصادرها، إضافة إلى الوقوف عند الأبحر والقوافي ومواصفات الرباعية التي عرفت بها.
3-القسم الثالث: الترجمات النثرية التي وصلت إلى 38 ترجمة قام بها عدد من الأدباء الناثرين العرب، ومنهم كذلك المشهور والمغمور، وضمن هذا القسم كانت ترجمة المؤلف للرباعيات وقد عرضها كما عرض الرباعيات الأخرى، وفي هذا القسم نجد أسماء أساطين الأكاديميين والعلماء الذين دفعتهم دوافع كثيرة لترجمة الرباعيات نثراً.
4- القسم الرابع وضم 10 ترجمات شعبية للرباعيات، وهذا القسم هو من أهم الأقسام وأكثرها طرافة واكتشافاً، فإذا عرف القراء والباحثون عدداً قليلاً من الترجمات، فمن النادر أن يتم البحث في الشعر الشعبي عن ترجمة للرباعيات، وأزعم أن البحث عن ترجمة الرباعيات في الشعر الشعبي كالبحث عن إبرة في كومة قش، بل إن المؤلف بعلميته كلّف نفسه الكثير حين جمع كل منظوم ومنثور، وزاد على ذلك ما لا يطلب منه وهو الشعر الشعبي لشعراء شعبيين ترجموها زجلاً لأغراض تختلف اختلافاً جوهرياً عن ترجمة النظم، أو ترجمة النثر للبحث والدراسة، وللحق فإن هذا الفصل ودراسته فنياً هو من الأهمية بمكان في دراسة الرباعيات.
الإحاطة والتقسيم
اعتدنا في مثل هذه التصنيفات على القصّ واللصق، وأن يجمع واحدهم شتات ما تفرق، لكن هذه الموسوعة تميزت بعقل ناقد ومدقق ومعايش ومترجم ومحقق، فالإحاطة تثير دهشة القارئ، وهي لا تظهر إلا بمعاينة الكتاب، إذ تظهر معاناة الكاتب وهو يتتبع النصوص المترجمة، سواء أكانت رباعية واحدة أم أكثر حتى تصل إلى المئات، ولم يلجأ إلى تسفيه عمل من الأعمال، وإنما أحاط بكل النصوص التي وصلت إليه إن كان من سعيه، أو من سعي ورثة المترجم الذين عرفوا بما يقوم به، وبعض هذه النصوص، وعدد من المترجمين لن نعثر على شيء يخصهم إلا في هذا الكتاب من أرجاء الوطن العربي الكبير.
«يتبين من التأريخ الدقيق للترجمات أن سهمة مصر هي الأكثر من حيث عدد المترجمين والناظمين، فهو تسعة وثلاثون 39، ويتلوها العراق بأربعة وعشرين 24، والأردن بثمانية 8، ولبنان بستة 6، والإمارات بثلاثة 3، وكل من البحرين وتونس وسورية والسودان باثنين 2، وكل من السعودية والجزائر والمغرب بواحد 1، وثمة إيراني، وآخر مجهول».
هذا النقل يدل على الإحاطة، وقد حرص الدكتور بكار بعد أن أنجز ما تم جمعه ودرسه ونقده، وبيّن مصدره، وتحدث عن مترجمه، قام بتصنيف المترجمين حسب الأقاليم والبلدان العربية، وهذا يمنح الدارسين مستقبلاً بأبواب من الدراسات تتعلق باللغات عموماً، واللغات الشرقية خاصة، والاهتمام بها، والميول المتعلقة بالفلسفة والتصوف اللذين نسب إليهما عمر الخيام، وربما امتد الأمر لدراسة التواصل مع الثقافات الأخرى، وكثير من هذه الترجمات ذات أصول إنكليزية أو فرنسية أو تركية.
العدد والأصول
إشارات كثيرة علمية جاءت في الدراسة تدل على التزيّد في الرباعيات وعددها، وقد أعاد المؤلف ذلك للمخطوطات والأصول، سواء كانت مباشرة أم بالوساطة، وجمع في هذه الدراسة كل ما يمكن من الترجمات.
«عدد الترجمات والمنظومات، سبع وتسعون 97، وعدد رباعياتها 7885 بعد إضافة خمس عشرة لأمين نخلة، أضيفت في موسوعة ترجمات عربية لرباعيات الخيام، وقد تكررت أعداد منها عند المترجمين لتعدد ونسخ الرباعيات ومجموعاتها، فأما عدد المترجمين والناظمين فثلاثة وتسعون 93 لأن أربعة منهم لهم عملان اثنان».
هذا العدد الكبير حقاً يظهر العناية بالرباعيات والخيام، وطبيعة القلق النفسي الذي تعيشه المجتمعات، وربما كان عدد من المترجمين في حالات فكرية قلقة وجودية، فلجأ إلى ترجمة الرباعيات ليقول ما يشاء على لسان الخيام، وخاصة ما يتعلق بالقلق وأسئلة الوجود ناسباً ذلك للخيام هرباً من تحمّل التبعات الفكرية، ومن الحالات المعروفة التي وثقها المؤلف حالة أحمد رامي الذي فقد أخاه الشاب، فكانت ترجمته للرباعيات تنفيساً عن روحه، وأسئلة قلقة تعبر عن فجيعته بأخيه، ومن ذلك تيسير سبول وإبراهيم العريّض وغيرهما كثير، ومن ذلك ما كان من المازني في (حصاد الهشيم) عندما لم يعجبه ما وصل إليه من ترجمة فقام بترجمتها بنفسه..
ويضاف إلى ذلك تسامح المؤلف في عرض الترجمات، سواء كانت من اللغة الأصلية، أم من لغة وسيطة، أو كانت مجرد صياغة نظماً أو نثراً لترجمة قام بها غيره.
هذا يعزز مكانة الموسوعة في حال أردنا القيام بدراسة نقدية تقويمية لنتاج الترجمات، وأسباب الترجمة، وما نتج عن ذلك.
«أصول الترجمات كثيرة ومتفاوتة: فارسية، وفارسية وتركية معاً، وإنكليزية عن فيتزجيرالد وغيره، وفرنسية، وإيطالية مترجمة عن الإنكليزية، فأما المنظومات فعن عدد من الترجمات العربية كما هو مذكور في كل منظومة».
قد تكون الرباعيات من الآثار الإنسانية القليلة التي حازت هذا القدر من الاهتمام، والسؤال: لماذا لم يركن الأدباء إلى ترجمة واحدة وكفى؟ لماذا لم يصبوا اهتمامهم في ترجمة أعمال أخرى؟
الترجمات العربية لرباعيات عمر الخيام جهد كبير لعالم جليل الأستاذ الدكتور يوسف بكار، ويستحق الوقوف عنده لما فيه من خبرة وعلم وتقويم.