استراتيجيات الأمن الوطني والأمن الاقتصادي ودور حكومات الدول النامية
| د. قحطان السيوفي
في العقد الأخير، أصبح مفهوم الأمن الاقتصادي جزءاً أساسياً من الأمن الوطني للدولة الحديثة، وأعطى العديد من الحكومات، الأولوية للأمن الاقتصادي، بصفته عنصراً أساسياً في استراتيجياتها للأمن الوطني، وهو ما يعكس التداخل المتزايد بين السياسات الاقتصادية والمخاوف الأمنية الأوسع للحكومات، فبات الأمن الاقتصادي في صدارة المناقشات حول السياسات في الوقت الذي أدت فيه مجموعة من الأزمات، كجائحة كورونا والحرب الأوكرانية، إلى انقطاعات في سلاسل الإمداد العالمية.
وتعكف الحكومات حول العالم على جعل البلدان أقل عرضة لتلك الانقطاعات، وخاصة في وقت تضيف فيه الاضطرابات الجيوسياسية المتصاعدة بعداً جديداً إلى حالة عدم اليقين السائدة، وأصبحت إعادة توطين الأنشطة والتوريد من الدول الصديقة، من التوصيات السائدة على مستوى السياسات الحكومية، حيث يمر النظام العالمي الآن بتغيرات كُـبرى تتطلب أجندة جديدة لضمان الأمن الاقتصادي.
فمن الحروب الساخنة والتوترات المحلية، إلى المواجهات بين القوى العظمى، وتحولت العلاقة المعقدة بين الاقتصاد والأمن إلى مصدر قلق يومي للناس العاديين في كل مكان، وتزداد الأمور تعقيداً لأن الأسواق الناشئة تكتسب مزيداً من النفوذ الاقتصادي وتتحدى بشكل مباشر هيمنة القوى الاستعمارية الكبرى.
وبينما كان الأمن الوطني في السابق يركز بشكل رئيس على القدرات العسكرية والدفاعية، أصبحت الهشاشة الاقتصادية مصدر تهديد رئيساً لاستقرار الدول وأمنها، وقد أظهرت أحداث مثل الحروب التجارية، والتوترات الجيوسياسية، وخصوصاً بين الولايات المتحدة والصين، كيف يمكن أن تؤدي هشاشة سلاسل التوريد والاعتماد الاقتصادي إلى تهديد الأمن الوطني.
تطور مؤخراً مفهوم الأمن الاقتصادي استجابةً لمفهوم الاعتماد الاقتصادي، على سلاسل التوريد أو التقنيات الأجنبية، في أوقات الأزمات، وقد تعزز هذا الوعي في العديد من الدول النامية التي اكتشفت اعتمادها على دول، قد لا تكون حليفة، في العديد من السلع الاستراتيجية، ما دفع الحكومات للتركيز على الأمن الاقتصادي، والإعلان عن استراتيجيات وطنية له، وأصبحت الاستثمارات العامة في الصناعات الحيوية حجر الزاوية في هذه الاستراتيجيات، وتزايدت الاستثمارات الحكومية الضخمة في قطاعات الطاقة النظيفة والبنية التحتية والتقنيات المتقدمة لتقليل اعتمادها على الموردين الأجانب وتعزيز القدرات الإنتاجية الوطنية.
كما اعتمد العديد من الحكومات، سياسات إعادة توطين الصناعات، أو تعزيز الروابط التجارية مع الشركاء الموثوقين، وهذا الاتجاه، المُسمى «إعادة التوطين مع الحلفاء»، يهدف لتقليل الاعتماد على الدول المنافسة جيوسياسياً وتوفير الأمان للسلع الحيوية، وهذه السياسة هي إحدى أبرز السياسات التي يفضل أن تتبناها حكومات الدول النامية لحماية أمنها الاقتصادي، وهي سياسة إعادة الإنتاج إلى السوق المحلية لضمان توفير آمن للسلع الحيوية.
إن مصطلح «الحلفاء الموثوقين» يختلف تعريفه من دولة إلى أخرى، فتنظر إليه بعض الحكومات، ببراغماتية أكثر بحسب المصالح التجارية المتبادلة، وتختزله دول أخرى في تصنيف دول الشمال ودول الجنوب.
بالمقابل أدرج منتدى الاقتصاد العالمي عدة مناظير في سياسات الأمن الاقتصادي، من ضمنها البراغماتية والانفتاح، والتنويع وبناء الثقة بين الشركاء، والتركيز على الحوار، والبعد عن التوتر، والتعاون نحو الأهداف المشتركة.
وبالحديث عن المنافسة الجيوسياسية، يتبادر إلى الذهن تلك المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، التي كانت عاملاً حاسماً في التفات العديد من الحكومات إلى تطوير سياساتها للأمن الاقتصادي، وشهد العالم سياساتٍ من كلتا الدولتين تهدف إلى التقليل من الاعتماد على منتجات وسلع الدولة الأخرى، كما شهد استثمارات مليارية في صناعات استراتيجية مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، وأدى هذا التحول إلى تبني موقف أكثر حمائية في السياسات الاقتصادية، حيث تحدد المخاوف الأمنية الوطنية القرارات المتعلقة بالتجارة والاستثمار.
ومما يثير الدهشة أن حجم التجارة الثنائية بين الصين والولايات المتحدة سجل مستويات قياسية عام 2022 على الرغم من استمرارهما في فرض تعريفات جمركية مرتفعة، من جانب آخر، هناك شواهد على أن «الأمن المرن» الذي ينتجه نظام التجارة المتعدد الأطراف أثبت فعالية في التخفيف من نقص الإمدادات، وتكيف بعض الحكومات مع الحرب الأوكرانية، فكما أشار تقرير منظمة التجارة العالمية الذي صدر مؤخراً حول التداعيات التجارية للحرب، استوردت حكومة إثيوبيا 45 بالمئة من القمح من روسيا وأوكرانيا قبل الحرب ثم شهدت لاحقاً تراجعاً حاداً في حجم هذه الواردات، بنسبة 75 بالمئة في حالة روسيا و99.9 بالمئة في حالة أوكرانيا، غير أن إثيوبيا استطاعت التصدي لهذه الانقطاعات من خلال الزيادة الكبيرة في واردات القمح من دول أخرى كالأرجنتين.
تشير تقديرات اقتصاديي منظمة التجارة العالمية إلى أن 19 بالمئة من الصادرات العالمية تُصنف ضمن فئة منتجات «عنق الزجاجة»، وهي المنتجات المتاحة من عدد محدود من الموردين رغم حصتها السوقية الكبيرة.
وتواجه حكومات البلدان منخفضة الدخل المخاطر الأكبر، نظراً لأنها الأكثر استفادة من الآثار التكنولوجية الإيجابية المقترنة بالتجارة الدولية.
على الحكومات في الدول النامية أن تضع في الحسبان ثلاثة أبعاد مترابطة: التأثيرات التي تخلفها التطورات الجيوسياسية على الاقتصاد العالمي؛ وتأثير العلاقات الاقتصادية العالمية على الأمن الوطني؛ والعلاقة بين المنافسة الاقتصادية العالمية والرخاء.
قد تؤثر العوامل الجيوسياسية بشكل عميق على الاقتصاد العالمي، فضلاً عن خسائرها البشرية المدمرة، فالحرب الأوكرانية والحرب الإسرائيلية العدوانية على غزة ولبنان غالباً ما يتردد صداها وتداعياتها إقليميا ودولياً.
وتسببت العقوبات الغربية على روسيا، وارتباك صادرات الحبوب الأوكرانية، في ارتفاع فاحش بأسعار الطاقة والغذاء، الأمر الذي أدى إلى انعدام أمن الإمدادات والتضخم عالمياً.
بالمقابل الصين، تتعاون مع الدول النامية ضمن مبادرة الحزام والطريق، كما تعتمد دول عديدة الآن على الصين لتأمين مكونات سلاسل التوريد الحرجة المرتبطة بالدفاع، وهو ما يجعلها عرضة للخطر من دول الغرب الاستعمارية على المستويين الدبلوماسي والعسكري.
تعد ظاهرة عدم الاستقرار السياسي في الدول النامية وما يترتب عليها من آثار سلبية في كثير من المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية محل نقاش، وخاصة في ظل انتشار ظروف عدم الاستقرار التي تمر بها حكومات الدول النامية في المنطقة العربية وغيرها.
ويترتب على عدم الاستقرار السياسي تفشّي شعور بعدم اليقين بشأن السياسات الاقتصادية، من سياسات ضريبية وسياسات الصرف الأجنبي وسياسات مكافحة التضخم، وتوفير السلع العامة، وكذلك بشأن تدفق رؤوس الأموال من الخارج.
كما يؤدي عدم الاستقرار السياسي إلى خلل في السياسات الاقتصادية المحددة لتحقيق النمو الاقتصادي، واضطرار الحكومات لتغيير السياسات الموضوعة مسبقاً، وانعكاس ذلك كله على كثير من المتغيرات الاقتصادية الكلية مثل نمو الناتج المحلي الإجمالي، والاستثمار الخاص، والتضخم، والبطالة، وغيرها، وأرجو أن تستفيد الحكومة السورية الجديدة من بعض الأفكار الواردة في هذا المقال لما فيه المصلحة الوطنية السورية.
وزير وسفير سوري سابق