حدود التدخل الأميركي وإستراتيجية حزب الله لإدارة المعركة
| علي عدنان إبراهيم
بات واضحاً حجم وحدود التدخل الأميركي المباشر وغير المباشر في ساحة المعركة بمنطقة الشرق الأوسط، هذا التدخل الذي ظهر جلياً في الهجوم الإسرائيلي على إيران وحجمه وتداعياته حتى كأنه لم يكن، أما السبب بتحجيم هذا الهجوم وتأخيره وفوضاه فيرجع إلى حسابات أميركية تطغى على مصالح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الضيقة ومصالح الكيان الواسعة، هنا تدخل المصالح الأميركية المباشرة في اللعبة ولا مجال أو توافق على إدخالها الآن خاصة قبل الانتخابات الرئاسية الأكثر إثارة للجدل في تاريخ المعارك الرئاسية الأميركية.
ومع محدودية الصور القادمة من إيران لما حدث خلال ساعات المعركة الجوية فجر الأحد، فإن الرواية الإيرانية هي الأقرب للتصديق، فمن شاهد سماء فلسطين المحتلة تتوهج بالصواريخ يوم الرد الإيراني وأرضها تضاء بومضات ارتطام هذه الصواريخ بأهدافها، يصعب عليه تصديق ما يقوله المسؤولون الإسرائيليون حول هجومهم الذي وصفوه ذات مرة بأنه سيكون ساحقاً لا تقوم لإيران بعده قائمة، إلا أنها تمارس حياتها بكل طبيعية، لا بل تؤكد على لسان أرفع مسؤوليها أن الرد على هذا الهجوم الجديد قادم من دون تحديد الطريقة والوقت، حيث أكد رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف أن الرد على العدوان الإسرائيلي «حتمي ومؤكد»، وأكد الرئيس مسعود بزشكيان أن «الشعب الإيراني سيرد بحكمة وذكاء»، وبغض النظر إن كان الرد صاروخياً أو غير صاروخي، فإن حدود الأمر باتت واضحة كما رسمها الأميركي فلا حرب كبرى في المنطقة كما يشتهي نتنياهو ولا مجال لتعريض كل المصالح في الشرق الأوسط للدمار من أجل رعونة يمكن الاستعاضة عنها بهدنة طويلة الأمد، وبهذا الشكل تبقى مشكلة إسرائيل معلّقة مع جبهات المقاومة المفتوحة ضدها في المنطقة العربية، وفي هذه المساحة تحديداً لم يتدخل الأميركي بشكل مباشر منذ بدء الحرب قبل عام بل أعطى إسرائيل الوقت والضوء الأخضر إلى أجل مسمى، كما أغدق عليها بالمال والمعلومات الاستخبارية والإمكانيات لإنهاء هذا الملف بسرعة وبشكل خاص في غزة ولبنان والضفة، إلا أن الأماني الإسرائيلية اصطدمت بإرادة غير معقولة من المقاومين وصمود خيالي من الشعبين اللبناني والفلسطيني، ما جعل الوقت عاملاً حاسماً في إنهاء اللعبة وفرض الواقع الجديد في المنطقة.
وفي حين تدور رحى المفاوضات الجديدة في الدوحة بعد توقف دام شهرين، ما قبلهما لا يشبه ما بعدهما، يعود الحديث عن ضرورة إقناع نتنياهو بأي صفقة تنهي هذه الدوامة، حتى إن وزير الحرب في الكيان يوآف غالانت بدا مقتنعاً بأن هذا الطريق هو الأسلم والأضمن عندما قال: «لا يمكن تحقيق كل الأهداف من خلال العمليات العسكرية وحدها، وللقيام بواجبنا الأخلاقي بإعادة رهائننا إلى منازلهم، سيتعين علينا تقديم تنازلات مؤلمة»، هذا الألم الذي لا يريد نتنياهو تجرعه، خاصة بعد أن انتفخ رأسه حد الانفجار إثر تمكنه خلال أيام قليلة من اغتيال الأمين العام لحزب الله اللبناني ومعظم قيادات المقاومة وتفجير أجهزة «البيجر» بأيدي آلاف المقاومين وإزاحتهم من الجهد الحربي، فاعتقد أن الحرب في لبنان لن تستغرق الكثير من الوقت والتضحية قبل أن يتداعى الحزب بشكل نهائي ويدخل الإسرائيلي لبنان فاتحاً وقد يتوجه إلى الأماكن أخرى، كل هذه الأماني التي رسمها نتنياهو تقلصت واقتربت من الاضمحلال مع ثبات المقاومين خلال شهر من القتال وتمكن حزب الله من إدارة المعركة على الميدان اللبناني وفي الميدان الإسرائيلي بكل حنكة، فوسّع عمليات الإطلاق باتجاه الأراضي المحتلة، وكشف عن أسلحة جديدة يرمى بها للمرة الأولى في ساحة القتال، وأكثرَ من مفاجآته التي بات العدو ينتظرها كي يعرف ما الخطوة التالية بعد أن ضاع في الميدان كما ضاع سابقاً عام 2006 وخرج مهزوماً بعدما استنزفت قواه شهراً و3 أيام.
خروج الولايات المتحدة من المشهد العسكري المباشر في ميدان القتال بين حزب الله وحماس من جهة وجيش الاحتلال من جهة أخرى، سوى بالإمداد المادي والمالي، يعطي أريحية أكبر لحركات المقاومة للتعامل مع العدو الذي تعرفه جيداً، ومن الواضح أن اتساع نطاق الحرب في هذه المنطقة بالذات لن يجر الأميركي إليها، فكان على المقاومة توسيعها لإلحاق الضرر الأكبر بجيش الاحتلال المنهك وقلب الطاولة على رأس نتنياهو وجره لقبول المفاوضات تحت النار بعد أن كان يهدد بها خلال الفترة الماضية، فالحزب أعلن في مفاجأة مدوية للرؤوس الحامية في الكيان عزمه إخلاء الشريط الشمالي من فلسطين المحتلة حتى 15 كيلومتراً، منذراً المستوطنين في 25 مستوطنة ممتدة من الساحل حتى إصبع الجليل ضمن هذه المساحة بالهروب فوراً على اعتبار أنها ستصبح هدفاً مشروعاً بكل ما فيها لصواريخ المقاومة ومسيّراتها التي سببت أزمة نفسية لإسرائيل، وبدل أن يفاوض حزب الله تحت النار ويتراجع 15 كيلومتراً إلى ما وراء الليطاني صار العكس هو الصحيح، فأي المخارج الآن يتحكم بها نتنياهو وهو الذي شن حرباً مدمرة على لبنان كله وقتل معظم قيادات حزب الله، لكنه في الوقت عينه لم يصنع أي إنجاز على الأرض، بل بات مقبلاً على مشاهدة موجة جديدة من النزوح من الشمال بعد أن كان يعد بإعادة من نزحوا منه قبل عام.
وعلى الرغم من خيبته من جراء الأنباء التي تصله من كل الاتجاهات خلال الأيام الأخيرة إلا أن نتنياهو مدفوعاً بحكومته المتطرفة لن يوافق على ما ستأتي به مفاوضات الدوحة وسيبقي الأمر معلقاً في غزة، ولن يعطي المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين أي انطباع إيجابي حول الوضع في لبنان وسيواصل حربه متعددة الجبهات إلى أن يتغير شيء ما في هذا المسار لمصلحته أو ضده، إلا أن الصحافة الإسرائيلية التي تعيش توجيهاً قاسياً لم تألفه سابقاً، بدأت تتفلت من عقالها مؤخراً وتبيّن حجم الضرر بالقول: «عدد الجنود الذين يقتلون في جنوب لبنان يتزايد بدلاً من أن يتناقص مع مرور الوقت»، وتضيف بما لا يدع مجالاً للشك: «حزب الله متماسك وقادر على مواصلة عملياته القاتلة على الرغم من الضربات الأخيرة التي تلقاها»، وهذا ليس سوى إنذار شديد الوضوح لن يراه نتنياهو، وإن رآه سينكره.