في الذكرى السبعين لثورة الأول من تشرين الثاني الجزائرية المجيدة
| بقلم: سفير الجزائر في سورية – كمال بوشامة
«نوفمبر جلّ جلالك فينا ألست الذي بثّ فينا اليقين؟»
يقول هكذا شاعر الثورة مفدي زكريا.
نعم، فبهذه الذكرى التي لا تُنسى والسّمة التي لا تُمحى، وهي الاحتفال بتشرين الثاني المجيد، التاريخ الذي يعززنا بقيمنا القتالية وبالتزامنا وأخوتنا وتضامننا الفعّال مع أنفُسنا ومع القضايا العادلة في جميع أنحاء العالم، فإنه من واجبنا أن نتذكر اللحظات المؤثرة التي عاشتها بلادنا طوال سنوات الجمر، سنوات الكبت والقمع.
إن ثورة تشرين الثاني من سنة 1954، ذاك الحدث العظيم الذي سجّله التاريخ العالمي بأحرف أزلية في مخطوطاته، كان رمزاً للحركة المقدسة التي أعلنها جميع المؤرخين بكوكبنا «ثورة القرن العشرين الكُبرى».
ومن ثُمّ، فمن الضروري، لفهم عدالة ثورتنا في هذه الذكرى السبعين لها، أن نقول بصدق، بل بفخرٍ: لقد كان صعباً ومؤلماً كفاحنا منذ ما يُسمى «بحادثة المروحة» في 30 نيسان 1827، وفي الحقيقة، إن هذه «الإيماءة المزعومة» التي لم تكن عند البعض من المؤرخين بالطبع، أكثر من مُشادة بسيطة بين الداي والقنصل الفرنسي، أصبحت ذريعة للحملة على الجزائر واستعمارها، وهكذا، فنتيجة «ضربة المروحة»، كانت فعلاً الذريعة للإنزال الأول للقوات الفرنسية في سيدي فرج يوم 19 حزيران 1830، ثم الإنزال الثاني يوم 5 تموز 1830 بأربعين ألف عسكري ليغسلوا، على قول قادتهم، إهانة الداي لقنصلهم، بل لفرنسا كلها، وهكذا كانت عقوبتهم لنا بطريقة وحشية.
ولكن المقاومة في مستوى العظمة أوقعت الغزاة في خسائر فادحة يعني بِخُمُسٍ فوقهم، هذا وإذا كانت النتيجة بعد ذلك هي احتلال البلاد، فالسبب هو لأن فرنسا الاستعمارية استخدمت قوات ووسائل قمعية شرسة أكثر من أولئك المستعمرين الذين عرفتهم الجزائر قبلهم.
ومن هنا وعندما بلغت قواتها العسكرية أكثر من مئة ألف مسلحٍ مُدعمين بترسانة هي الأخرى قوية، كان الأمير عبد القادر، الذي بُويعَ لقيادة الجهاد ضد المحتل الفرنسي، يردُّ بكل حزم وعزم على الاعتداءات المتعددة، وليس التاريخ المزور هو الذي سَيُظهِرُ العكس أو يطمس القومية التي تألق بها بطلنا المِغوار، وذلك لأن حتى أعداءه شهدوا فيه قوة الخلق والذكاء والسلطة التي كان يمارسها على جميع القبائل.
لكن الأمير عبد القادر خُدِعَ من طرف الفرنسيين، والقصة طويلة وهي مُدونّة بكل التفاصيل التاريخية، لقد أُودِعَ السجن بقرارهم لمدة خمس سنوات، فاختار بعد إطلاق سراحه، دمشق مُعتزله الأخير، وهنا يتساءل سائل: هل ينبغي أن نقول إن الحرب قد انتهت بعد هجرته إلى بلاد الشام؟ بالتأكيد لا! لأن الجزائريين واصلوا وانتفضوا عام 1871 لتعميم القتال، واليوم ونقولها للتاريخ، إن المسؤول الأول لهذه الانتفاضة الكبيرة كان ابن الأمير عبد القادر واسمه محي الدين الذي كان مدعوماً بالثائر ناصر بن شُهره، فكِلاهُما أقلع من دمشق ودخل القطر الجزائري في كانون الثاني حيث بَدأا الحركة مع الوطنيين المحليين بالناحية الشرقية، وهذا التطور على المستوى العسكري لم يفشل في إبراز الوعي السياسي لدى الشباب، بل على العكس من ذلك، ساهم بإرساء بداية حركة وطنية لتحرير البلاد.
وهكذا، فالجزائر شهدت ابتداءً من عام 1871 أطول انتفاضة وأوسعها انتشاراً من بين جميع الانتفاضات التي وقعت قبل حرب التحرير عام 1954، وبالتالي، فإن هذه الحركة الخطيرة في وجه فرنسا، أو في واقع الأمر، الحركة الوطنية المسلحة، لم تمنح الاستعمار أي مهلة، لقد واصلت الجزائر إظهار معارضة وغضب شبابها وفلاحيها وعُمّالها، بل كل طبقات شعبها الشجاع والشريف الفخور.
إن الشعب لم يستسلم أبداً لأنه استمر بنشاطه عبر الزمن، منذ عام 1871 وحتى إعلان ثورة تشرين الثاني المجيدة عام 1954، التي هي في الواقع بداية النهاية رغم أن فترة 1954- 1962 كانت صعبة ومؤلمة على شعبنا الذي ضحى بالكثير من الدماء ودفع ثمناً باهظاً لاستعادة سيادته الوطنية، وسوف لا نتحدث عن هذه الحرب لأنه بسبب شراستها والظلم الذي تعرض له الشعب الجزائري، لم تستطع الموسوعات احتواءها، ولهذا سنكتفي بوصم الجانب الإجرامي الذي سيطر على سلوكها من الجيش الاستعماري والموقف العنصري للحكومات الفرنسية وخاصة اليسارية التي تعاقبت على السلطة طوال هذه الحرب.
فالمليون ونصف المليون شهيد تقول الأرقام، ناهيك عن الملايين من الجزائريين الآخرين الذين أبيدوا قبل هذا التاريخ! أليس من المبالغة؟ يقول بعض الفلاسفة الذين لم يعرفوا هذه الثورة إلا من بعيد أو في الصالونات المريحة للدبلوماسية الفرنسية؟ لا، ليست مبالغة، لأن هناك المزيد ولا نخجل إذا قلنا إن هناك ضعف ذلك العدد أو ثلاث مرات، من يدري؟ نعم، من يدري، لأننا نكتشف في بلدنا إلى حدّ الآن أفجع مقابر جماعية لا تزال تحكي ببلاغة وبطريقتها الخاصة تلك المذابح المريعة التي ارتكبت في المناطق الريفية ضد السكان العزل الأبرياء، فما كان الاستعمار يقدّر الخطر الذي كان يُسببه للإنسانية من خلال قمع شعب مثل شعبنا الذي كان يطالب فقط بحقوقه المشروعة.
وهكذا ظلّت الجزائر المستعمرة لأكثر من قرن ونصف القرن ثابتة في نضالها حتى استقلالها في 1962.
وهنا نؤكد بقوة أن تشرين الثاني الذي نحتفل به كل عامٍ، كان بالنسبة لنا، بل للتاريخ، بداية النهاية، نعم بداية النهاية لأنه بتجنيد والتزام الشعب والمجاهدين وبطولاتهم وتضحياتهم واستشهادهم بأرض الحرية وما كان يقابل ذلك من ردود فعلٍ بهيمية من طرف القوى المُضطِهدة التي دمرّت البلاد وأحرقت الأرض ومن فيها، مهددةً شعبنا، منذ نهب بلادنا تمكنّا من إنهاء فترة طويلة من المعاناة والذكريات السيئة التي تبقى، رغم كل ذلك، ذكرى لا تُنسى، فهذا هو تشرين الثاني المجيد الذي أعطى للإنسانية إنسانيتها.
إن تشرين الثاني الثورة والشعب الجزائري، كانا مُدعّمين بالأشقاء والأصدقاء، أفلا يجب بهذه المناسبة أن نُنوه بذلك الدعم وتلك المساعدة بل تلك المساعدات الفعالة في تلك الأوقات الصعبة للغاية والتي ما زال يقدرها الشعب الجزائري حق قدرها؟ نعم، لأن هذه اللفتات الوطنية النبيلة بقيت وستبقى راسخة في ذهن كلّ جزائري لا ينسى تونس والمغرب، اللتين كانتا الداعم الأساسي لكفاحنا بمشاركتهما المادية والسياسية في كل الظروف، وفي ما يخص تونس وما قدمته من تضحيات، فقد اختلطت دماؤها بدماء الأشقاء الجزائريين في قصف ساقية سيدي يوسف أثناء العملية العسكرية التي نفذها الجيش الفرنسي أثناء مطاردة الثوار الجزائريين، وتلك الجريمة الشنعاء وقعت في شباط 1958 حيث سقط ضحيتها أكثر من 70 شخصاً و12 طفلاً من مدرسة ابتدائية وإصابة 148 من السكان، وكم كانت كثيرة هذه العمليات التي سقط فيها العديد من الشهداء!
ولا ننسى بهذا العرض الشقيقين مصر وليبيا في دعمهما غير المشروط واللتّين لم تكونا بعيدتين عن تلك الحركة التحريرية، بل كانتا مَعنيتين بها. أمّا بالنسبة لأشقائنا السوريين، فقد التزموا دون تهاون بثورتنا قبل اندلاعها في تشرين الثاني 1954، بوقت طويل، لأنهم كانوا حاضرين أيام الحركة الوطنية الجزائرية تحت إشراف أولاد وأحفاد الأمير عبد القادر وغيرهم من أبناء الجالية الذين عزموا على مواصلة كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي.
ونتيجة لذلك، فقد وجدت ثورتنا نفسها مطمئنة للسير قُدُماً على طريق النصر، لأن الإنجاز الذي قام به إخواننا السوريون يسمح لنا أن نقول إن هناك وبالتأكيد العديد من الأحداث التي لا تقل أهمية، تمّت في دمشق وغيرها من مُدُن الأراضي السورية خلال الثورة التحريرية، ولكن بما أننا لم نستطع أن نوردها بالكامل في هذه المناسبة، فإن القليل الذي نُسلِط عليه الضوء يكشف بالفعل ويُظهِر إذا لزِمَ الأمر، أن جزائريي الشام ساهموا بشكل كبير إلى جانب إخوانهم السوريين في حرب التحرير الوطنية التي كانت تهُمّهم إلى أقصى حدّ، وبالتالي، إذا كانت ثورتنا قد حُظيت بدعمٍ جيدٍّ في هذه المنطقة، فذلك لأن سورية، كما يعرف الجميع، كانت هي الأخرى مركزاً وبلد استقبال للجزائريين على مدى قرون، وكان المناخ مناسباً لجميع مظاهرات الدعم وإجراءات ملموسة لمساعدة ومؤازرة ثورتنا التحريرية.
ومن هنا لا ننهي مُساهمتنا بتشرين الثاني دون العودة إلى سيدة، بل إلى سيدة عظيمة تركت آثاراً في هذا البلد الحضاري، اسمها نجاح العطار التي كتبت ذات يوم بكل نظافة فكرها وحُبها للجزائر: «وتسألون ما نحن وجزائركم وأميركم وبطلكم، سائلوا دمشق إذا وقاسيون والغوطة، سائلوا تلك العُروة الوثقى بين بلدٍ إلى النضّالِ مُنتماهُ، وبين بلدٍ إلى البطولةِ مَأتاه ومَغداهُ، سائلوا سورية والجزائر كيف كانت اللحمة في العروبة والإسلام وأخوّة السلاح وقرابين الثورة هي الوحدة التي نسجتها من لحمٍ ودمٍ، يدا عبد القادر الجزائري ومن بعده استطالت واستطالت حتى أيامنا هذه، أيها الكبير فينا، كِبرَ أوراس، أيها البطل بيننا بطولة وهران، نَم في الخالدين وفي الراضين المرضيين وتقبّل مِنّا انحناءة الإجلال».
هذا هو تشرين الثاني الذي نحتفل به اليوم وبقلوبٍ متألمة، في حين تعيش الدول الشقيقة صعوبات جمّة وتعاني سورية من أخطر حِصار فُرِضَ عليها بشكل تعسفي ودون سبب، وإخواننا الفلسطينيون يُكابدون ويلات حرب، من دون هوادة، ضد الكيان الصهيوني المُدعّم من طرف قوات البطش والظلم التي تريد السيطرة على الوضع بالعالم، نعم، هذه وبجمل بسيطة ملحمة تشرين الثاني وحقائقه التي تنبثق منها مفاهيم وقِيم العدالة والتضحية والسلام والتضامن بين الشعوب المكافحة ضد مختلف الإمبرياليات في العالم.
هذا هو تشرين الثاني جَلّ جلالهُ فينا، أليسَ الذي بثّ فينا اليقين؟