درب «بريكس» لا يزال طويلاً
| عبد المنعم علي عيسى
عقدت مجموعة «بريكس» قمتها السادسة عشرة بمدينة قازان الروسية ذات الإرث الإسلامي العريق، والراجح أن اختيار المكان كان بدوافع يراد منها تسليط الضوء على متانة العلاقة التي تربط ما بين الروس والدول الإسلامية، خصوصاً أن عديد هذه الدول الأخيرة قد أضحى 6 وبثقل ديموغرافي يفوق الـ300 مليون نسمة، وعلى مدى أيام ثلاثة 22-24 تشرين الأول الجاري ناقشت الدول الـ36 محاور عدة لكن الأبرز منها محاولة التوافق على استصدار «عملة نقدية» خاصة أسوة بـ«اليورو» المعتمد داخل بلدان الاتحاد الأوروبي، الفعل الذي يأتي في إطار الجهود المتزايدة داخل «بريكس» لإنشاء نظام اقتصادي أكثر استقلالية، وأقل اعتماداً على الهياكل المالية الغربية، التي تمثل إحدى أذرع الهيمنة على العالم، ولعل الفعل كان تعبيراً عن السياقات التي رمى إليها مؤسسو «بريكس» منذ إصدارهم لبيانها التأسيسي، عام 2009، حينما دعا البيان إلى «قيام نظام عالمي متعدد الأقطاب».
من دون شك تراكم «بريكس»، قمة بعد قمة وخطوة إثر خطوة، المزيد من وضعية «السوء» للغرب الذي يجد نفسه على تلك الوضعية بمفاعيل عدة بعيداً عن خطوات وقمم «بريكس»، بدءاً من شراهته لإسالة الدماء في فلسطين وجنوب لبنان، ثم وصولاً إلى عقوباته الأحادية التي لا تنجو منها أي دولة تعاند الدوران في ركابه، وفي ذاك قالت مجلة «فورين بوليسي»، في مقال تزامن مع انعقاد قمة قازان: إن «من الصعب، خارج واشنطن ومجموعة السبع والاتحاد الأوروبي، تصور مدى الاستياء من النفاق والهيمنة الغربية»، وإذا ما كان الفعل أكيداً فإن هذا الأمر لوحده كفيل بتقوية الروابط بين نسج «المستائين» الذين تحاول «بريكس» اجتذابهم على وقع ذلك الفعل، وهو ما يضفي مشروعية إضافية لمشروعها الرامي للتحرر من تلك القبضة، التي كشفت حرب غزة، لوحدها، عن توحشها بدرجة تثير الكثير من التساؤلات حول هذه «الحضارة» الغربية التي باتت روائح «لبوساتها» تزكم الأنوف على الرغم من كل ما يصرف عليها من «ملطفات» لا يبدو أنها قادرة على فعل الكثير.
يبدو جلياً، في خلال القمم الثلاث الأخيرة، أن «بريكس» عازمة على هزيمة الدولار، كما يبدو أن العازمين مدركين لأن الفعل من الصعب له أن يحدث بـ«الضربة القاضية»، ومن المؤكد أنهم مدركين لحقيقة صعوبة المهمة، وهي قد تحتاج إلى سنوات، إن لم يكن إلى عقود، على أن يتخللها جهد كبير من المهم أن يكون شديد التناغم ومتناسق الخطوات، ولن يكون بمقدور «العملة الافتراضية» أن تحل محل الدولار قبيل إنجاز الكثير، فهي تتطلب أولا إنشاء بنك مركزي جديد بالتزامن مع وجود قرار سياسي بالتخلص التدريجي من عملات الدول السيادية المنضوية تحت راية ذلك البنك، كما تحتاج، العملة الافتراضية، إلى أن تكون مغطاة بالذهب لكي تستطيع التغلب على منافسها، الدولار، الذي فقد تغطيته تلك منذ قرار الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون عام 1971 القاضي بفك الارتباط ما بين الذهب والدولار، وهذه كلها أمور لا تزال إشكالية ومن الصعب إيجاد حلول سريعة لها، فالصين مثلاً، التي يمثل اقتصادها لوحدها نحو 69 بالمئة من إجمالي ناتج «بريكس»، كيف لها أن تقبل أن لا تهيمن عملتها «اليوان» على سلة العملات الأخرى؟ وكيف للبعض أن يقبل بتلك الهيمنة خصوصاً إذا ما كانت العلاقة التي تربطه ببكين ذات طابع تنافري كالهند مثلا؟ هذه الخلافات التي يرقبها الغرب، ويضعها تحت مجهره على الدوام، هي التي تبرر عدم قلقه من الطرح القديم، المتجدد في قازان، والقائل باستصدار عملة موحدة لـ«بريكس»، ولربما تظهر «لا مبالاة» الغرب، تجاه الطرح، عبر تصريح كانت قد أطلقته المديرة العامة لـ«صندوق النقد الدولي»، كريستالينا غورغييفا، والذي قالت فيه: «ما نحتاج إلى رؤيته هو المزيد من التفاصيل، وما هو موجود في هذه الفكرة، وكيف يمكن أن تتم ترجمتها إلى واقع ملموس».
هناك، داخل تركيبة «بريكس»، حالة من التناقضات التي يمكن لها أن تكون معوقة للطموحات التي أنشئت لأجلها تلك المجموعة، والتي أملت موسكو من خلالها الانتقال بهذي الأخيرة من تكتل صاعد إلى قوة مؤثرة على صعيد العلاقات الدولية، فبلدان الـ«بريكس» الأساسية، والمنضمة إليها حديثاً، لا تتبنى، مثلاً، رؤى ومواقف موحدة تجاه أحداث عاصفة كالتي تجري في غزة ولبنان، بل ولا حتى التي تجري في أوكرانيا، الأمر الذي يرمي بحمولات ليست بالقليلة على وحدتها وانسجامها لتحقيق الهدف المرجو المتمثل بضرورة التخلص من الهيمنة الغربية.
اليوم، وبعد القمة الـ16 لمجموعة «بريكس» التي خرجت للعلن عام 2008 بشكلها الحالي، تبدو المجموعة في وضع أفضل، صحيح أن البنيان لا يشير إلى كتلة متماسكة، أو متراصة كما يجب، لكن سياقات المسار تشير إلى رسالة متماسكة، ومتراصة كما يجب، ومع ذلك فالدرب طويل، والمطلوب هو أن تبقى «بريكس» على تماسكها بدرجة تجعل منها بنظر الغرب أنموذجاً يجب أخذه بعين الاعتبار، أو رقماً في المعادلة العالمية لا يمكن تجاهله.
كاتب سوري